إستراتيجية النيتو...الحرب الإقتصادية بُعد جديد للمخاوف والإستجابة

دراسات وتحليلات - منذ 5 شهر

عدن ، عين الجنوب | خاص
في عالم تتصارع فيه الدول على النفوذ السياسي والاقتصادي، جاء تصريح الأدميرال الهولندي روب باور، رئيس اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي (النيتو)، ليضيء جانب مهم من الاستعدادات الاستراتيجية تبرز أهمية تحوّل الاقتصاديات والشركات التجارية نحو عقلية (سيناريو الحرب). التصريحات التي أطلقها خلال منتدى السياسة الأوروبية في بروكسل لم تكن مجرد دعوة إلى تعزيز الردع العسكري، بل دعوة شاملة لإعادة التفكير في دور الاقتصاد كسلاح استراتيجي في الصراعات العالمية.

فكما هو معلوم اصبح الإقتصاد عصب الحروب الحديثة وما طرحه الأدميرال باور يعكس إدراكاً عميقاً لدور الاقتصاد في النزاعات الحديثة. فكما نشير دائماً الحروب لم تعد تعتمد فقط على القوة العسكرية المباشرة، بل أصبحت الاقتصادات المتطورة والمتكاملة هي الحاسمة في تحقيق الانتصارات. فبينما الجنود يخوضون المعارك على الأرض، يحدد تدفق الإمدادات الحيوية والموارد الاستراتيجية على المدى الطويل القدرة على الصمود وتحقيق التفوق والأمثلة عديدة وفي مقدمتها الحرب العالمية الثانية بشكل خاص.

تصريحات باور عن ضرورة إعادة تشكيل خطوط الإنتاج والتوزيع لتقليل الاعتماد على الصين وروسيا ليست مجرد تحذير نظري، بل انعكاس لتحديات استراتيجية قائمة. لقد أظهرت الأزمات الأخيرة، مثل أزمة الغاز مع روسيا والتوترات التجارية مع الصين، هشاشة أوروبا أمام استغلال هذه الدول لأدواتها الاقتصادية كوسيلة للضغط السياسي.

فمن أكثر النقاط إثارة في تصريحاته كانت الإشارة إلى دور روسيا والصين في استغلال اعتمادية الغرب. وصف باور الاتفاقيات التجارية مع شركة غازبروم بأنها (اتفاقيات مع بوتين)، في إشارة إلى استخدام موسكو مواردها الطبيعية كأداة سياسية. والأمر ذاته ينطبق على الصين التي تستغل ملكيتها للبنية التحتية الحيوية في أوروبا لتحقيق أهداف استراتيجية.

التاريخ الحديث مليء بالأمثلة على هذه الديناميكية. على سبيل المثال، استخدام روسيا للغاز كسلاح ضغط خلال الأزمة الأوكرانية وأزمات الطاقة التي تبعتها في أوروبا. كذلك، تتزايد المخاوف من تأثير الشركات الصينية المالكة للموانئ الأوروبية، مثل ميناء بيريوس في اليونان، على القرارات السياسية والاقتصادية في المنطقة.

ما يدعو للإعجاب في تحليلات باور هو أنه لا يختزل الردع في القوة العسكرية وحدها. بل يشير إلى أهمية بناء منظومة متكاملة من الردع تشمل جميع أدوات القوة الوطنية الاقتصادية، التقنية، والسياسية. استخدام عبارة الردع أوسع بكثير من الجيش وحده يعكس رؤية استراتيجية شاملة تدعو إلى استثمار الحكومات والشركات في بناء اقتصادات قوية ومستقلة قادرة على مواجهة الأزمات.

هذه النظرة تواكب التوجهات العالمية نحو تقليل الاعتمادية على اللاعبين الدوليين المهيمنين، سواء من خلال إعادة تشكيل سلاسل التوريد أو بناء صناعات محلية منافسة. وفي الوقت نفسه، تعكس مخاوف أوروبا من التحول إلى (رهينة اقتصادية) للقوى الكبرى. وربما كانت أكثر العبارات جرأة هي وصف باور الموقف الأوروبي بأنه (ساذج) إذا افترض أن الصين لن تستخدم نفوذها الاقتصادي أبداً. هذا التصريح يدعو إلى تبني نظرة واقعية تجاه السياسات الصينية التي تتجاوز التجارة إلى التوسع الجيوسياسي. فالصين، بفضل مبادرة الحزام والطريق واستثماراتها الضخمة، تسعى لخلق نفوذ سياسي غير مباشر في أوروبا وأفريقيا وآسيا وهو ما تم ملاحظته مؤخراً في التقارب الخليجي الإيراني والجنوب أفريقي الروسي.

وما يمكن استخلاصه من تصريحات باور هو أن أوروبا، التي عانت من تزايد التخريب على إمدادات الطاقة وهشاشة سلاسل التوريد، تواجه حاجة ملحة لإعادة تشكيل أولوياتها الاستراتيجية. ليس فقط على المستوى العسكري، ولكن أيضاً من خلال بناء اقتصادات مرنة ومتناغمة قادرة على تحمل الصدمات المستقبلية.

هذه الدعوة قد تكون بداية لعصر جديد من التفكير الأوروبي، حيث يصبح الأمن الاقتصادي جزءاً لا يتجزأ من الاستراتيجية الأمنية الشاملة. فمن خلال التنسيق بين الحكومات والشركات، يمكن لأوروبا أن تتحرر من الهيمنة الاقتصادية الخارجية، وتعزز مكانتها كقوة عالمية مستقلة وقادرة على حماية مصالحها.

تصريحات الأدميرال باور ليست مجرد كلمات عابرة في مؤتمر، بل هي انعكاس لتحولات عميقة في الفكر الاستراتيجي للنيتو، في ظل عالم يتغير بسرعة ويزداد تعقيداً.

لكن !
بالرغم أن التفكير الجديد لدول حلف النيتو يبرز توجه مهم ولكن هل استراتيجية الحرب الإقتصادية كافية؟

كما يستشهد من التاريخ؛ القوة العسكرية او الإقتصادية لوحدها ليست كافية لضمان الأمن القومي والإستراتيجي لدولة أو حلف أو قارة بأكملها. تصريحات الأدميرال روب باور حول استعداد الشركات لـ سيناريو الحرب والتقليل من الاعتماد على القوى الكبرى مثل الصين وروسيا هي خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها بحاجة إلى استكمال عبر تحالفات استراتيجية دولية تتبنى سياسة الشريك، خاصة مع دول الشرق الأوسط والدول الناشئة والنامية ذات المواقع الاستراتيجية.

أخر الإستقراءات للنظام العالمي يشير الى أن العالم اليوم يتحرك نحو نظام متعدد الأقطاب، حيث لا تقتصر القوة على قوى تقليدية مثل الولايات المتحدة وأوروبا، بل أصبحت الدول الناشئة مثل الهند والبرازيل ودول الخليج العربي تلعب أدوار محورية في التوازنات الدولية. لهذا، فإن بناء تحالفات استراتيجية مع هذه الدول يعزز من قدرة دول النيتو على تحقيق أهدافها الأمنية والاقتصادية، ويقلل من تأثير قوى مثل الصين وروسيا.

وفي سياق دول الشرق الأوسط يتضح أن التحالف مع دول خاصة تلك التي تلعب دوراً رئيسياً في أسواق الطاقة مثل السعودية والإمارات وقطر، يوفر شريان حياة للاقتصاد الأوروبي. دول الخليج العربي، على سبيل المثال، ليست مجرد مزودي نفط وغاز، بل أصبحت مراكز استثمارية ذات تأثير عالمي، مع مشاريع متقدمة في الطاقة المتجددة والبنية التحتية تتشكل ضمن رؤية المملكة 2030 والإمارات 2050. هذه الشراكات يمكن أن توفر لدول النيتو إمدادات مستقرة من الطاقة وتخلق روابط اقتصادية أقوى تُقلل من اعتمادها على روسيا، بجانب أن تمكين دولاً نامية جديدة تتميز بمواقع إستراتيحية تضيف قاعدة لتحالفات مهمة تتسم بالمرونة مثل الجنوب الذي ابدى إهتماماً واضحاً بالمصالح الخليجية والدولية المشتركة، خاصة فيما يتعلق بتأمين طرق التجارة العالمية ومواجهه النفوذ الإيراني-الروسي في المنطقة.

فليس سراً أن موقع الشرق الأوسط الاستراتيجي يعتبر عاملاً آخر يعزز من أهميته. إنه معبر حيوي للتجارة العالمية عبر مضيق هرمز وقناة السويس ومضيق باب المندب، مما يجعله نقطة اتصال بين الأسواق الآسيوية والأوروبية.

وإلى جانب الشرق الأوسط، الدول الناشئة مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا تُشكل فرصاً غير مستغلة لتحالفات استراتيجية، ومخاطر ترك مثل هذا الفراغ تتمثل في سد هذا الفراغ من قبل الصين وبالتالي تعزيز نفوذها. هذه التحالفات ليست فقط اقتصادية؛ بل هي أيضاً سياسية وأمنية. الشراكة مع الدول الناشئة تُعطي دول حلف النيتو وزن إضافي في المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، مما يعزز قدرتها على مواجهة النفوذ الصيني والروسي في تلك المحافل.

من المتوقع أن تكامل هذه الإستراتيجية لدول حلف النيتو ستعمل على تقليل الاعتماد على القوى الكبرى من خلال بناء علاقات اقتصادية قوية مع شركاء جدد مما يُقلل من الحاجة إلى التعامل مع الصين وروسيا، إضافة الى أن التعاون مع دول الشرق الأوسط سيُعزز أمن الطاقة الأوروبي ويقلل من أزمات الإمدادات التي عانت منها القارة في السنوات الأخيرة، بجانب إن إقامة شراكات استثمارية وتجارية مع الدول الناشئة والجديدة النامية يُوفر فرصاً اقتصادية جديدة ويوسع من قاعدة الشركاء التجاريين والأمنيين للنيتو. التحالف مع دول خارج الكتلة التقليدية يمنح أوروبا بشكل خاص مساحة أكبر للمناورة السياسية في مواجهة الصين وروسيا.

ومع ذلك رغم أهمية التحالفات لكن للشفافية، ليست حلاً سحرياً لكل التحديات. التحالفات تحتاج إلى إرادة سياسية قوية واستثمارات مستدامة لبناء الثقة وتحقيق النتائج المرجوة. كما أن النجاح يعتمد على القدرة على إدارة التوترات المحتملة داخل هذه الشراكات، خاصة إذا كانت مع دول ذات أولويات وقيم مختلفة، ومع ذلك يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص إستطاعت إحتواء ذلك بشكل واضح، كمثال علاقتها الإستراتيجية مع اليابان وأيضا الفلبين وتايوان وكوريا الجنوبية في آسيا وليبيريا في افريقيا، لكن كما هو واضح أيضاً القدرة لإحتواء هذه التباينات تتفاوت بين دول حلف النيتو، حيث تعد الولايات المتحدة الأمريكية الأكثر موهبة تليها ألمانيا والمملكة المتحدة ثم فرنسا.

وفي النهاية يمكن القول: بينما تُعد تقوية الاقتصادات الوطنية وتقليل الاعتماد على الصين وروسيا جزءاً مهماً من استراتيجية الردع النيتوويه، فإن التحالفات الدولية توفر بُعد إضافي من القوة خاصة إذا تبنت سياسة الشريك إعتماداً على المصالح المشتركة ومميزات إضافية. الشراكة مع الشرق الأوسط والدول الناشئة الواعدة والنامية ذات الموقع الإستراتيجي ليست خيار ثانوي بل ضرورة استراتيجية تُمكّن دول النيتو من تعزيز أمنها الاقتصادي والسياسي، في عالم يزداد تعقيداً وتشابكاً بين الشرق والغرب.

فيديو