الاسلام السياسي، نماذج للجمود والإستنساخ والتطرف

السياسة - منذ 6 أيام

عين الجنوب | تقرير - خاص


في عالم تتداخل فيه الأيديولوجيات وتتشابك فيه المصالح، يظل الدين أحد أقوى المحركات التي أثرت في تاريخ البشرية، سواء في لحظات النهوض أو في لحظات التراجع والانقسام. لم يكن الدين يوماً غائباً عن الحضور في المجال العام، بل ظل حاجة وجودية للبشر، جزءاً من بنيتهم النفسية والاجتماعية، وطاقة روحية تمنحهم معنى الحياة والهوية. ومع ذلك، فإن التاريخ يعلمنا أيضاً أن هذه الطاقة الروحية لم تسلم من محاولات الاستغلال والتوظيف، خاصة حين تدخل في الحسابات السياسية والسلطوية، لتُصبح وسيلة لا غاية، وذريعة لا رؤية.

إن ما نشهده منذ مطلع الألفيه هو إعادة تدوير استغلال الدين، ليس فقط في الدول ذات البنية التقليدية أو المجتمعات التي تعاني من ضعف المؤسسية، بل حتى في النظم التي تدّعي الحداثة، حيث أصبحت الجماعات السياسية ذات الصبغة الدينية، وعلى رأسها جماعات الإسلام السياسي، تتقن استخدام الدين كأداة تعبوية، تمنح خطابها شرعية مطلقة، وتربط بين ما هو سياسي وما هو إلهي، في خلط خطير بين المقدس والمدنس، بين الغيب والواقع.

فؤاد زكريا نبه إلى خطورة هذا التداخل، وذهب إلى أنّ شمول أية عقيدة دينية على المجتمع لا بد أن ينكمش مع حدوث التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، فكلما ازداد الوعي، وتقدمت المجتمعات في مجال العلم والمؤسسات، ضاقت مساحة النفوذ المطلق للعقائد الشمولية، بما فيها العقائد التي تتبناها جماعات الإسلام السياسي وفي السياق المحلي (الإخوان والحوثيين). غير أن هذه الجماعات، وعلى الرغم من هذا التقدم الحاصل، لم تتخلى عن محاولاتها للهيمنة، بل طوّرت أدواتها وخطابها، بحيث تتكيف مع الظرف، وتُعيد تقديم نفسها في كل مرة بصيغة أكثر نُعومة أو أكثر عنفاً، بحسب ما تقتضيه المصلحة.

العنف وضرب استقرار الشعوب في سلوك هذه الجماعات ليس عرضاً طارئاً، ولا انحرافاً عن الأصل، بل هو جزء من بنيتها التكوينية، نابع من نظرتها إلى العالم، ومن عقيدتها في الحكم والمجتمع والهوية. فالخصم لديهم ليس فقط من يخالفهم في السياسة، بل من يخالفهم في التفسير والتأويل، من لا يرضخ لسلطة "المنهج" كما يرونه، وهو "منهج" قائم على تصور نظري مثالي كما وضعه سيد قطب في تنظيراته، خاصة في "معالم في الطريق"، حيث يبدأ مشروع التغيير الجذري من الإيمان بأنّ الإسلام، كما يراه هو، هو النموذج الكامل للحياة، وبأن الجاهلية تحاصر المجتمع من كل الجهات، وبأن الحل الوحيد هو في عودة شاملة للمنهج الإسلامي بكل تفاصيله من منظور إخواني، يتجاوز إصلاح الواقع إلى استبداله كلياً.

بهذا المنظور، يتحول الخصم السياسي إلى عدو وجودي، ويصبح الخروج على الجماعة خروجاً على "الحق"، والنقض كفراً، والمعارضة تمرداً على الدين، وهو ما يُفضي إلى تسويغ العنف بكل أشكاله، بما في ذلك التكفير والقتل والارهاب، ليس كوسيلة اضطرارية، بل كجزء من العقيدة نفسها، كأداة "تطهير" تعيد المجتمع إلى أصله "النقي" حسب زعمهم.

لكن الاستغلال السياسي للدين لا ينحصر فقط في هذه الجماعات المتطرفة أو ذات الصبغة العقائدية الصلبة، بل يمتد أيضاً إلى بعض الفصائل التي لبست لبوس الليبرالية أو الديمقراطية، كما حدث مع بعض تيارات الإخوان المسلمين في أكثر من بلد. فباسم التعددية دخلوا المؤسسات، وباسم الحرية مارسوا الإقصاء، وباسم القيم الحديثة روّجوا لسرديات دينية مؤطرة تخدم مشروعهم الأيديولوجي، ما خلق حالة من الازدواجية العميقة: وجه معتدل يظهر للعالم، ووجه متشدد يوجه الداخل ويُخضع القواعد. وفي الحالتين، كان الهدف النهائي هو التمكين والسيطرة، لا الوطن أو بناء الدولة.

ومن الخطأ اختزال المسألة في عداء مع الدين أو مع الفكرة الليبرالية أو حتى مع الاشتراكية، فكل منظومة من هذه المنظومات تحتوي على ميزات، ولها تطبيقاتها الناجحة في تفاصيل معينة والفاشلة كمنظومة كاملة وبحسب السياق والتنوع الذي تتسم به شعوب العالم. ولكن حين يتم اختطاف الدين لصالح مشروع سلطوي، يفقد فيه الإنسان حقه في التفكير، وتُختزل العلاقة مع الله في الولاء للجماعة، وتُصبح النصوص أدوات تأبيد للصوابية لا للتوازن، فإنّ الكارثة تتجاوز السياسة لتصل إلى تهديد المعنى نفسه للدين.

الفارق الجوهري بين السلطوية السياسية في الغرب أو الشرق، وبين جماعات الإسلام السياسي، هو أن الأولى تبقى، مهما بلغ قمعها، ضمن الإطار البشري القابل للمراجعة والمحاسبة، بينما الثانية تربط السلطوية بالمطلق، وتؤسس لطاعة لا تخضع للعقل، بل للعقيدة المغلقة، حيث يتحول الحاكم إلى ظل الله وآيته، والخروج عليه خيانة لله، والتحديث فتنة، والمنطق زندقة.

في هذا السياق، لا يمكن فصل التوظيف الديني عن مشاريع الهيمنة. فكما سعت بعض الأنظمة السلطوية إلى إضفاء القداسة الآلهية على زعامتها من خلال تبني خطاب ديني رسمي، سعت جماعات الإسلام السياسي إلى نفس الغاية ولكن بخطاب معاكس: لا عبر الدولة، بل عبر اختراق الدولة، لا عبر المؤسسات، بل عبر إنشاء مجتمع بديل مؤدلج داخل المجتمع، يقوده الصف المنظر (الطليعة المؤمنة)، ويعيد صياغة العلاقات بناءاً على مفاهيم الولاء والبراء، والحاكمية، والجهاد، والتمكين.

إنّ ما يجري اليوم في المنطقة من صراعات، ليس إلا امتداداً لهذا الصراع الأكبر على الشرعية، وعلى من يملك الحق في تفسير الدين، وتحديد العلاقة بين الإنسان وربه، بين الفرد والجماعة، وبين الدولة والعقيدة. وكلما حاولت هذه الجماعات فرض رؤيتها، ازداد انكشافها أمام الناس، ليس لأن الناس باتوا ضد الدين، بل لأنهم باتوا أكثر وعياً بأنّ الدين لا ينبغي أن يكون وسيلة للإخضاع والفرض، وأنّ العلاقة مع المقدس لا يمكن أن تمر عبر جماعة تدعي احتكار الحقيقة.

وبالتالي، فإن المواجهة مع هذه الجماعات لا ينبغي أن تكون فقط أمنية أو عسكرية، بل فكرية وأخلاقية وثقافية، تستعيد الدين إلى موقعه الطبيعي، كمصدر للهوية لا للهيمنة، وكقيمة أخلاقية لا كأداة قمع. كما أنّها ليست معركة بين دين ودنيوية، ولا بين تقليد وحداثة، بل معركة على المعنى، على كيفية العيش، وعلى قدرة المجتمعات على حماية ذواتها من الاستغلال مهما كان لونه أو لغته أو لباسه.

لذا انّ العودة لاستخدام الدين للهيمنة، سواء من قبل جماعات الاسلام السياسي كالإخوان أو الأنظمة الطائفية كالحوثيين ليست إلا علامة على فقدان الشرعية السياسية والأخلاقية. فحين تعجز المشاريع عن الإقناع، تلجأ إلى الإلهام، وحين تعجز الأيديولوجيا عن بناء الإنسان، تستبدله بالولاء المقدس. ولهذا فإنّ المستقبل لن يُبنى على هذه الفرضيات المتحورة، بل على قدرة المجتمعات على تحرير الدين من السياسة من خلال وضعه كقيمة عليا تعكس هويات الشعوب وتنوعها وتحرير السياسة من احتكار "المقدس" بإعتبارها اداة لتحقيق مصالح الناس وطموحات الشعوب وليس غرضاً بحد ذاتها، والأمثلة القادمة من الاقليم كفيلة بتوضيح المعنى، خاصة النموذج الاماراتي الذي جمع من كل نظام ما هو ايجابي ونبذ كل ما هو سلبي، ومن يطلع على النموذج الاقتصادي، والتخطيط الاماراتي المركزي، والنظم الإجتماعية، والحفظ الهوياتي سيفهم ذلك في السياق العربي، اضافة الى النموذج الياباني والصيني في السياق الشرقي، والكندي نسبياً في السياق الغربي.

الإستنتاج، هناك دولاً تصنع نموذجها الخاص بما يتلاءم مع هويتها الحقيقية ومتطلبات النماء والتوازن والاستقرار والحداثة وهناك دولاً جامدة او نسخة من غيرها، خاصة في عالم يتسم ببيئة شديدة الاستقطاب.

فيديو