التغيير الديموغرافي في الجنوب.. مخاطر صامتة تهدّد الهوية والاستقرار

دراسات وتحليلات - منذ 1 ساعة

عين الجنوب||خاص:

يشهد الجنوب خلال السنوات الأخيرة واحدة من أخطر المراحل المفصلية في تاريخه الحديث، تتمثل في عمليات تغيير ديموغرافي ممنهجة تتسلل بصمت، وتتطور في الخفاء، وتخطّط لإعادة رسم الخارطة السكانية بما يخدم مشاريع سياسية وأمنية تتعارض جذرياً مع إرادة أبناء الجنوب وهويتهم وتطلعاتهم الوطنية. ورغم أن هذا الملف لا يحظى بما يكفي من الضوء الإعلامي، إلا أنّ تأثيراته العميقة باتت واضحة على البنية الاجتماعية، والتوازن السكاني، ومسار الصراع الدائر في البلاد.

منذ اندلاع الحرب وسيطرة القوى المعادية للجنوب على مفاصل مهمة من المشهد السياسي والإداري، سعت أطراف عديدة إلى استخدام الديموغرافيا كسلاح صامت، لكنه فعّال، لإحداث تغييرات تُضعف حضور الهوية الجنوبية وتشتّت التماسك الاجتماعي. وتجلّى ذلك عبر موجات نزوح منظمة إلى المحافظات الجنوبية، وإعادة توطين فئات معينة، وخلق واقع جديد يتداخل فيه العامل السكاني مع حسابات النفوذ والسيطرة.

لم يكن النزوح العادي الناتج عن الحرب هو المشكلة، فاليمنيون جميعاً ضحايا ظرف واحد، وإنما الإشكالية تكمن في استغلال هذا النزوح سياسيّاً من قبل قوى هدفت إلى فرض ثقل بشري جديد في مدن الجنوب، خصوصاً عدن، وحضرموت وشبوه والمهره التي يشكل 80٪ من السكان فيها من خارج الجنوب بهدف التأثير على البنية السكانية، وتغيير ملامح المدن، وإضعاف القرار المحلي، وخلق بيئة اجتماعية مشوّشة يمكن توجيهها عند الحاجة لصالح مشاريع تعارض مشروع الجنوب وحقه في تقرير مستقبله.

وتكشف الوقائع أن هذه التحركات ليست عشوائية، بل تأتي ضمن استراتيجية متكاملة اتبعتها بعض القوى التي حاولت منذ سنوات فرض نفوذها من خلال إحداث خلل سكاني مدروس، بدءاً من منح وثائق غير قانونية لتمكين فئات من الاستقرار، مروراً بفتح أبواب استثمارات وهمية، وصولاً إلى إدخال عناصر غير مدنية تحت غطاء النزوح أو الأعمال التجارية. وهذا ما جعل التغيير الديموغرافي يتحول من ظاهرة اجتماعية إلى أداة تستخدم لإعادة تشكيل الخارطة السياسية.

أبناء الجنوب، الذين خاضوا معارك طويلة للحفاظ على هويتهم واستعادة دولتهم، يرون أن هذه التغييرات ليست مجرد تدفقات سكانية طبيعية، بل محاولات تهدف إلى طمس الهوية الجنوبية، عبر إدخال مكوّنات ليست جزءاً من النسيج التاريخي للجنوب، ومحاولة إحلال هوية جديدة تتناسب مع مشاريع الهيمنة والتوسع. وتترافق هذه التحركات مع حملات إعلامية وسياسية تستهدف تشويه الموقف الجنوبي، وكسر حالة الوعي المجتمعي، وإرباك الجبهة الداخلية عبر ضخ تركيبات غير منسجمة مع الواقع الاجتماعي.

ويخشى كثير من المراقبين أن استمرار هذا الوضع، دون إجراءات واضحة وشجاعة من السلطات المحلية وقوى المجتمع في الجنوب، سيقود إلى تحولات عميقة قد تعيد تشكيل المدن الجنوبية بشكل يتعارض مع خصوصيتها وهويتها المتجذرة. فالتغيير الديموغرافي ليس مجرد تغيير في العدد، بل في الثقافة والقيم والسلوك العام، ومع الوقت يمكن أن يصبح عاملاً ضاغطاً على القرار السياسي، ومؤثراً في اي استفتاء يخص الجنوب او حتى في انتخابات قادمه ، ومغيراً لطبيعة الانتماء الوطني ذاته.

ومع ذلك، فإن الجنوب يمتلك من الوعي السياسي والاجتماعي ما يجعل هذه المخاطر مكشوفة وليست خافية. فالحراك الشعبي والمؤسسات الأمنية والمجتمعية باتت أكثر يقظة تجاه كل محاولات العبث بالتركيبة السكانية، وهناك إدراك واسع بأن حماية الأرض ليست فقط حماية حدود، بل حماية هوية وثقافة وانتماء. ولذلك، أصبحت الدعوات اليوم أكثر إلحاحاً لوضع سياسات واضحة لضبط النزوح العشوائي، وتنظيم السجلات السكانية، ومنع أي إجراءات يمكن استغلالها لتغيير التوازن الديموغرافي.

إن التغيير الديموغرافي في الجنوب ليس حدثاً عابراً، بل تحدٍ مصيري يجب التعامل معه بالجدية اللازمة، لأنه يمس صميم مستقبل الجنوب وهويته واستقراره السياسي والاجتماعي. وفي ظل ما تشهده المنطقة من صراعات تتداخل فيها الجغرافيا مع الإرادة الدولية والإقليمية، يصبح الحفاظ على التركيبة السكانية للجنوب جزءاً لا يتجزأ من معركة الوجود.

فالمجتمعات لا تنهار بانفجارات مفاجئة، بل بتغييرات صامتة تتراكم حتى تفرض واقعاً جديداً. ومن هنا، فإن إدراك هذه المخاطر، ومواجهتها بالوعي والسياسات الرصينة، هو الطريق الوحيد لضمان أن يبقى الجنوب محافظاً على هويته، وقادراً على بناء مستقبله بعيداً عن مشاريع التذويب والتفكيك.

إن حماية الجنوب اليوم تبدأ من حماية هويته، وحماية الهوية تبدأ من إدراك خطورة التغيير الديموغرافي الذي بات سلاحاً يستخدم بهدوء، لكنه يترك أثره بعمق، ويهدد كل ما تحقق من انتصارات على مدى سنوات من النضال.

فيديو