النموذج الشرقي بين نظرة الفناء الخلفي والجوار الاستراتيجي

دراسات وتحليلات - منذ 3 أيام

عين الجنوب | تقرير - خاص

تبرز الصين كفاعل رئيسي في صياغة نمط جديد من العلاقات الإقليمية والدولية. المشهد الحالي في بحر الصين الجنوبي ومحيط آسيان يقدم نموذجاً مثيراً للدراسة مقارنة بالتجربة التاريخية للعلاقات بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية.

تمثل الاتفاقيات المزمعة بين الصين ودول آسيان نقلة نوعية في التعامل مع النزاعات الإقليمية. مدونة السلوك المتوقعة في بحر الصين الجنوبي تعكس مقاربة مختلفة جذرياً عن النمط التقليدي لإدارة النزاعات. فبدلاً من التصعيد أو الضغوط السياسية، تختار الصين مساراً دبلوماسياً يعترف بالوضع القائم كأساس للحلول المستقبلية. هذا النهج يتسق مع الخطاب الصيني الداعي إلى "التنمية المشتركة" و"المصير المشترك".

منطقة التجارة الحرة بين الصين وآسيان تمثل بعداً استراتيجياً أعمق. فبينما تقدم الولايات المتحدة نموذج "الفناء الخلفي" في علاقاتها مع أمريكا اللاتينية، تطرح الصين مفهوم "الجوار الاستراتيجي" الذي يركز على التكامل الاقتصادي والتنمية المتبادلة. بنك التنمية الجديد، الذي أكد الرئيس شي دعم الصين المستمر له، يعد أحد أدوات هذا النهج التعاوني بين دول الجنوب.

لقرن من الزمان، اتسمت العلاقات بين الولايات المتحدة وأمريكا اللاتينية بديناميكية معقدة تجمع بين الاعتماد الاقتصادي والتدخل السياسي. مبدأ مونرو (1823) الذي أعلن "أمريكا للأمريكيين" تحول عملياً إلى هيمنة أمريكية على القرار السياسي في العديد من الدول اللاتينية. التدخلات العسكرية المباشرة أو غير المباشرة عبر دعم أنظمة موالية (كما في تشيلي 1973) خلقت إرثاً من عدم الثقة.

على المستوى الاقتصادي، أنتجت سياسات "الفناء الخلفي" نتائج متناقضة. من ناحية، حققت الشركات الأمريكية أرباحاً كبيرة من استغلال الموارد اللاتينية. ومن ناحية أخرى، ساهمت هذه السياسات في إعتماد اقتصادات أحادية الجانب، وترسيخ النخب المحلية الفاسدة، وتعميق الفجوات الاجتماعية. ظاهرة الهجرة غير الشرعية والمخدرات التي أشار إليها الخطاب الصيني هي في جزء كبير منها نتاج لهذه الاختلالات الهيكلية.

الفرق الجوهري بين النهجين يكمن في الفلسفة الكامنة وراء كل منهما. النموذج الأمريكي التقليدي اعتمد على ثنائية المركز (الولايات المتحدة) والهامش (أمريكا اللاتينية)، بينما يقدم النموذج الصيني-الآسيوي تصوراً أكثر تعددية الأقطاب.

في الجانب الاقتصادي، بينما ركزت الشركات الأمريكية على استخراج الموارد الأولية، تستثمر الصين في البنية التحتية والتصنيع المحلي في دول آسيان. سياسة "طريق الحرير الجديد" تختلف عن "التحالف من أجل التقدم" الأمريكي في تركيزها على الربط المادي بين الاقتصادات بدلاً من المساعدات المشروطة.

رغم الخطاب التعاوني، يواجه النموذج الصيني انتقادات تتعلق بـ طموحات الهيمنة الإقليمية تحت غطاء التعاون الاقتصادي وهناك مخاطر"فخ الديون" في مشاريع البنية التحتية كما حصل لسريلانكا

لكن بالنسبة للتجربة الأمريكية، فإن الإرث التاريخي لا يلغي التحولات الإيجابية الأخيرة في السياسة الأمريكية تجاه أمريكا اللاتينية، خاصة في مجالات مثل برامج مكافحة الفقر والتعاون في قضايا البيئة وتغير المناخ

التجربتان تقدمان دروساً مهمة لإدارة العلاقات بين الدول الكبرى وجيرانها. النجاح الحقيقي لأي نموذج تعاوني يقاس بقدرته على تحقيق تنمية مستدامة ومتوازنة لجميع الأطراف. بينما تسعى الصين لتصحيح أخطاء النموذج الأمريكي التقليدي، فإن التحدي الأكبر سيكون في تجنب الوقوع في أشكال جديدة من الهيمنة غير المتوازنة.

المستقبل قد يشهد تقارباً بين النموذجين، حيث تتعلم الولايات المتحدة من أخطاء الماضي، وتتطور الصين في سياستها الخارجية لتكون أكثر شمولاً وتوازناً. في النهاية، مصير أي نموذج تعاوني فعال يرتبط بقدرته على تحقيق مصالح الشعوب وليس فقط الاقتصاديين.

فيديو