وجهان لإرهاب واحد: طهران وتل أبيب تستبيحان سيادة قطر

السياسة - منذ 1 ساعة

عدن،عين الجنوب

تثير المواقف الإيرانية الأخيرة موجًة عارمة من الجدل السياسي والأخلاقي على المستويين الإقليمي والدولي، بعدما سارعت طهران إلى إدانة الهجوم الإسرائيلي الأخير الذي استهدف العاصمة القطرية الدوحة، محاولًة الظهور بمظهر المدافع عن سيادة الدول العربية والقانون الدولي. غير أن هذا الموقف الذي قد يبدو للوهلة الأولى تضامنًا مع قطر، سرعان ما تحوّل إلى مادة دسمة للنقاش والنقد، إذ لم ينسَ المراقبون أن إيران نفسها أقدمت أواخر يونيو الماضي على تنفيذ هجوم مماثل استهدف الأراضي القطرية تحت ذريعة استهداف قاعدة أمريكية.

هذا التناقض الصارخ لا يقتصر على اختلاف في التقديرات السياسية، بل يعكس بوضوح ازدواجية في المعايير ونهجاً متكرراً من "التذاكي" السياسي، تحاول من خلاله طهران أن تنأى بنفسها عن ممارساتها السابقة بينما تُدين الأفعال نفسها إذا صدرت عن خصومها. فكيف يمكن لإيران أن تُدين خرق سيادة قطر اليوم، وهي التي انتهكتها بالأمس القريب؟ وكيف تسعى إلى كسب نقاط أخلاقية في الشارع العربي، بينما سجلّها حافل بالتدخلات العسكرية وتصدير الأزمات إلى جوارها الخليجي والعربي؟

إن هذا التناقض، الذي لم يغب عن أعين المحللين والدبلوماسيين، يفضح سياسة إيرانية تقوم على المكيالين: مكيال تُدين به خصومها لتكسب التعاطف السياسي والإعلامي، وآخر تبرّر به أفعالها العدوانية تحت شعارات المقاومة والممانعة. وبهذا، تجد طهران نفسها أمام مرآة تعكس صورة مقلقة، حيث تتحول إداناتها الصاخبة إلى اعتراف ضمني بجرائمها السابقة، وتكشف عن معايير انتقائية تجعل خطابها السياسي فاقداً للمصداقية أمام المجتمع الدولي والرأي العام العربي على حد سواء.

إيران تدين ما فعلته بيدها

عقب الغارة الإسرائيلية الأخيرة على قطر، سارعت وزارة الخارجية الإيرانية إلى إصدار بيان استنكار قوي اللهجة، واصفة الهجوم بأنه "اعتداء سافر على سيادة دولة عربية شقيقة وخرق واضح للقانون الدولي"، وداعية المجتمع الدولي إلى التحرك العاجل لمحاسبة إسرائيل. هذا الخطاب، الذي أرادت طهران من خلاله إظهار نفسها كحامية للمنطقة والمدافع الأول عن القضايا العربية، لم ينجح في حجب حقيقةٍ موثّقة لا تغيب عن الذاكرة القريبة: إيران نفسها نفّذت هجومًا صاروخيًا على القاعدة الأمريكية في الدوحة قبل فترة وجيزة، مبررة ذلك بأنه ردّ على مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني في يناير 2020.

وما يفاقم من وقع هذا التناقض أن طهران حاولت في حينه التلاعب بالألفاظ لتبرير فعلتها، مؤكدة أن الضربة "استهدفت قوات أمريكية" وليس الأراضي القطرية أو سيادة الدولة المضيفة. إلا أن هذا الادعاء لا يغيّر من الحقيقة شيئًا؛ فالصواريخ الإيرانية لم تهبط في فراغ، بل عبرت الأجواء القطرية وضربت قاعدة عسكرية قائمة على أراضٍ قطرية، في خرق فاضح للقانون الدولي ذاته الذي تتباكى عليه طهران اليوم.

وإذا ما أُجريت مقارنة مباشرة بين المبررات الإيرانية والمبررات الإسرائيلية، تتضح الازدواجية الفجة في سلوك البلدين. فإسرائيل تزعم بدورها أن غاراتها الأخيرة "تستهدف قادة حماس" وليس العاصمة القطرية، في تكرار شبه حرفي لما قالته إيران عندما أعلنت أن صواريخها "تضرب الوجود الأمريكي" وليس قطر نفسها. والنتيجة في الحالتين واحدة: استباحة سيادة بلد آمن والتصرف فوق القانون، سواء صدر الفعل عن تل أبيب أو عن طهران.

إن هذا المشهد يكشف عن إفلاس أخلاقي وسياسي لدى القيادة الإيرانية، التي تحاول الظهور في ثوب المدافع عن الجيران بينما تمارس الأفعال نفسها التي تدينها اليوم. بل إن إدانتها لإسرائيل تتحول عملياً إلى إدانة لنفسها، إذ لا فرق بين قذائف إسرائيلية تنتهك سماء قطر وصواريخ إيرانية فعلت الشيء ذاته. والنتيجة النهائية أن بيانات التنديد الإيرانية لا تعدو كونها محاولة لتسجيل نقاط دعائية في صراع إقليمي، فيما يظل سجلّها العملي حافلًا بالأفعال التي تُبطل مزاعمها وتفقد خطابها أي مصداقية.

تشابه سلوك دولتين مارقتين

يصف مراقبون هذا التلاقي في الأسلوب بين إيران وإسرائيل بأنه برهان صارخ على تشابه ذهني وسياسي عميق بين "الدولتين المارقتين"، فكلاهما يتبنّى منطقًا واحدًا في تبرير الضربات العابرة للحدود، قائمًا على الانتقائية وتغيير مسميات الأهداف لتفادي المساءلة الدولية. وفي هذا الإطار، تتلاشى الفروق الشكلية بين تل أبيب وطهران، إذ يبدو أن كليهما يعتمد القاعدة ذاتها: شرعنة الخرق عبر خطاب سياسي مموّه.

فإسرائيل ترفع شعارًا واضحًا في بياناتها: "نقصف قيادات حماس لا قطر"، محاولة أن تجعل من وجود قيادات فلسطينية مبررًا لتجاوز حدود دولة مستقلة. وفي المقابل، تتبنى إيران الصياغة نفسها تقريبًا عندما تقول: "نقصف القاعدة الأمريكية لا قطر"، وكأن الصواريخ يمكنها أن تفرّق في لحظة الانفجار بين هدف عسكري أجنبي وأرض الدولة التي يستقر عليها ذلك الهدف.

لكن النتيجة على الأرض لا تعرف هذا التمييز الوهمي: الضحية واحدة هي سيادة قطر وأمنها القومي، إذ تُستباح أجواؤها ويُهدّد استقرارها تحت الذريعة نفسها التي يرفعها كل طرف. هذا التطابق في التبريرات يعكس ما يصفه خبراء العلاقات الدولية بـ"التوأمة السلوكية"بين قوتين إقليميتين تتنافسان في العلن، لكنهما تمارسان في الجوهر سياسة القوة خارج الحدود بلا اعتبار للقانون أو للأعراف الدبلوماسية.

ويرى الكاتب والمحلل السياسي محمد جميح أن هذا التشابه المفضوح يُسقط أي محاولة للمفاضلة الأخلاقية بين الطرفين، فالمعادلة واحدة: انتهاك صارخ للقانون الدولي وتهديد مباشر لاستقرار المنطقة. وفي ظل هذا النمط المتكرر، تتحول شعارات"المقاومة" و"حماية الأمن الإقليمي" إلى مجرد أدوات دعائية، فيما تبقى الحقيقة الجوهرية أن طهران وتل أبيب تتساويان في الاستخفاف بسيادة الدول الصغيرة واستغلالها كساحات لتصفية الحسابات الكبرى.

وأكد جميح أن إيران تتصرف وكأنها تنكر تاريخها في الاعتداء على الأراضي القطرية، في حين تدين نفس الفعل عند الآخرين. وقال جميح: "كيف تدين إيران الهجوم الإسرائيلي على قطر، وهي نفسها نفّذت هجومًا مماثلًا على الدوحة قبل فترة؟! حتى حين تتذاكى إيران وتقول إنها استهدفت القاعدة الأمريكية ولم تستهدف قطر، فهي تشبه إسرائيل تمامًا حين تزعم أنها استهدفت قيادات حماس وليس العاصمة القطرية." 

ازدواجية الخطاب الإيراني

الإدانة الإيرانية للهجوم الإسرائيلي على قطر لا تتجاوز كونها مناورة سياسية محسوبة، تهدف قبل كل شيء إلى استثمار حالة الغضب العربي والإسلامي المتصاعدة ضد تل أبيب، في محاولة لإعادة تقديم طهران في صورة "حامية القضايا العربية" والمناهضة لإسرائيل. غير أنّ هذه المناورة، بحسب المراقبين، تصطدم بسجل طويل من السوابق الإيرانية التي تنسف أي ادعاء بالمصداقية، وتكشف ازدواجية واضحة في خطابها السياسي.

فعلى صعيد الخطاب، تسعى إيران إلى الظهور كمدافع شرس عن حقوق الشعوب العربية، وتتباهى في بياناتها الرسمية بدعمها المتواصل للقضية الفلسطينية، وتصوير تدخلاتها العسكرية في الإقليم على أنها خطوات "دفاعية" لحماية المستضعفين. لكن على الأرض، تبدو الحقائق مغايرة تمامًا؛ إذ تمتلك طهران سجلًا حافلًا من التدخلات العسكرية والأمنية، بدءًا من دعم ميليشيات مسلّحة في العراق، مرورًا بدورها المحوري في الحرب السورية، وصولًا إلى رعايتها لجماعة الحوثي في اليمن، بل وقيامها بشن هجوم صاروخي على القاعدة الأمريكية في الدوحة نفسها.

هذا التناقض الواضح يصفه مراقبون بأنه "تذاكٍ سياسي مفضوح"، إذ تحاول طهران القفز على ذاكرتها القريبة والتصرف وكأن العالم نسي ممارساتها، فيما تُدين اليوم أفعالًا هي ذاتها التي ارتكبتها. ومن هذه الزاوية، يؤكد محللون أن إدانة إيران لإسرائيل هي في حقيقتها إدانة لأفعالها هي، لأن كليهما استخدم المبررات ذاتها لتبرير خرق سيادة قطر: استهداف "خصم عسكري" فوق أراضي دولة أخرى.

ويؤكد الكاتب والمحلل السياسي محمد جميح أن هذا المنحى من التذاكي السياسي يظهر ازدواجية صارخة، إذ تدين طهران جريمة إسرائيل، وهي نفسها ارتكبتها سابقًا. وتابع جميح أن النتيجة العملية واحدة: "إيران بإدانتها الهجوم الإسرائيلي على قطر تدين نفسها. الدولتان المارقتان تتشابهان في الأسلوب والأهداف، وفكرة التفاضل بينهما ضرب من العبث".

ويذهب بعض المراقبين إلى القول إن طهران تعيش مأزقًا أخلاقيًا ودبلوماسيًا مزدوجًا؛ فهي تدرك أن التنديد بإسرائيل يمنحها شعبية لحظية في الشارع العربي، لكنها لا تستطيع في الوقت نفسه تبرير سلوكها المماثل، خاصة في ظل استمرار تدخلاتها العسكرية والإقليمية التي تضعها في مصاف الدول الأكثر انتهاكًا للقانون الدولي. وفي المحصلة، يتحوّل خطاب الإدانة الإيراني إلى اعتراف غير مباشر بالذنب، مهما حاولت طهران التلاعب بالألفاظ أو الاحتماء وراء شعارات "المقاومة" و"السيادة".

مفارقة أخلاقية وسياسية

يؤكد خبراء القانون الدولي أن أي اعتداء عابر للحدود على أراضي دولة ذات سيادة يُصنَّف عدوانًا صريحًا، بغض النظر عن المبررات أو الأهداف المعلنة. فالقانون الدولي، وفقًا لميثاق الأمم المتحدة واتفاقيات جنيف، يجرّم استخدام القوة ضد سلامة أراضي أي دولة مستقلة، سواء كان الهدف قصف فصيل مسلّح أو قاعدة عسكرية أجنبية. ومن هذا المنطلق، يوضح الخبراء أن إيران وإسرائيل تتساويان أمام معايير الشرعية الدولية، إذ ارتكبت كل منهما الفعل ذاته: توجيه ضربات عسكرية داخل حدود قطر، متذرعتين باستهداف "خصوم عسكريين" لا الدولة المضيفة.

ويضيف نشطاء حقوقيون أن التبريرات التي تقدمها طهران لا تقل خطورة عن خطاب تل أبيب. فسواء قالت إيران إنها قصفت قاعدة أمريكية، أو ادّعت إسرائيل أنها استهدفت قيادات "حماس"، فإن النتيجة واحدة: انتهاك صارخ لسيادة دولة مستقلة وتعريض المدنيين للخطر. ويشدد متخصصون في القانون الدولي الإنساني على أن سيادة الدول مبدأ غير قابل للتجزئة، ولا يمكن لأي قوة عسكرية أو إقليمية استخدام ذريعة "الردع" أو "ملاحقة أعداء" لتبرير قصف داخل أراضي دولة ثالثة.

هذه الانتهاكات تفتح الباب أمام مساءلة قانونية دولية، سواء عبر مجلس الأمن أو من خلال آليات محكمة العدل الدولية، إذ يمكن اعتبارها "أعمال عدوان" وفق المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي لا تتيح استخدام القوة إلا في حالة الدفاع الشرعي عن النفس، وبشروط صارمة لا تنطبق على الضربات التي نفذتها إيران أو إسرائيل.

وفي السياق نفسه، يحذر خبراء حقوق الإنسان من أن استهداف أراضٍ مأهولة بالسكان المدنيين—حتى لو كان القصف موجهًا نحو هدف عسكري—يعرض حياة الأبرياء للخطر ويُصنَّف كجريمة حرب محتملة، خصوصًا إذا لم تُتخذ التدابير اللازمة لتفادي الخسائر البشرية. وهنا، لا يملك أي طرف ترف التمييز بين "ضرب قاعدة" أو "ضرب مدينة"، لأن القانون الدولي يتعامل مع النتيجة لا مع الرواية السياسية.

وبذلك، يتضح أن إيران وإسرائيل تقفان في الخانة ذاتها من منظور الشرعية الدولية: دولتان انتهكتا المبادئ المؤسسة للنظام الدولي، وأثبتتا—رغم خطابيهما المتناقضين—أنهما تستخدمان القوة خارج الحدود بذرائع لا يُقرّها القانون، وهو ما يجعل كليهما عرضة للإدانة والمساءلة على السواء.

إدانة تكشف المستور

تظهر هذه الواقعة بما لا يدع مجالًا للشك أن إيران، وهي تدين الهجوم الإسرائيلي على قطر، إنما توجه أصابع الاتهام إلى نفسها أولًا، كاشفةً عن تناقض صارخ بين خطابها السياسي وأفعالها على الأرض. فحينما تصف الضربة الإسرائيلية بأنها "اعتداء على سيادة دولة عربية وخرق للقانون الدولي"، فإنها عمليًا تصف الهجوم الصاروخي الذي نفذته قواتها ضد القاعدة الأمريكية في الدوحة قبل فترة وجيزة. هذا التناقض لا يمكن تبريره بشعارات "الممانعة" أو ذرائع "مقاومة الاحتلال"، إذ يضع طهران في الموقع ذاته الذي تحاول إدانته.

الناشط السياسي محمد الشماسي قال أن هذه الإدانة أشبه باعتراف غير مباشر بأن طهران وتل أبيب تتشابهان في السلوكيات والأهداف، مهما اختلفت الشعارات والألوان. فإسرائيل تدّعي أنها قصفت "قادة حماس" وليس العاصمة القطرية، وإيران تزعم أنها استهدفت "القاعدة الأمريكية" لا الدوحة، لكن المحصلة واحدة: استباحة سيادة قطر وتهديد أمنها القومي.

وأضاف أن هذا المشهد يُسقط القناع عن الخطاب الإيراني الذي طالما قدّم نفسه حاميًا للقانون الدولي ومدافعًا عن قضايا العرب. فبينما تحاول طهران الظهور بمظهر نصير الشعوب، تُظهر الأفعال أنها تمارس النهج ذاته الذي تتهم به خصومها، مستخدمة لغة مزدوجة لتمرير تدخلاتها العسكرية في المنطقة.

ويذهب خبراء العلاقات الدولية إلى أبعد من ذلك، معتبرين أن ما جرى يثبت أن إيران وإسرائيل وجهان لعملة واحدة في توظيف القوة لتحقيق مكاسب سياسية إقليمية، حتى لو كان الثمن انتهاك سيادة دول أخرى وإشعال بؤر التوتر. فكلتاهما، وإن بدت في معسكرين متخاصمين، تتقاطعان في المنهج ذاته: استهداف أراضٍ عربية تحت ذرائع مختلفة—مرة بحجة ملاحقة خصوم مسلحين، وأخرى تحت ستار "حماية الأمن القومي".
منقول من نيوزيمن

فيديو