تعز تعيش سجل أسود.. حماية القتلة وشرعنة الإرهاب

السياسة - منذ 1 شهر

السياسة - عين الجنوب

تعيش مدينة تعز واحدة من أكثر مراحلها قتامة واضطرابًا في ظل قبضة عسكرية وأمنية خانقة يفرضها حزب الإصلاح الإخواني، الذي يحكم المدينة عبر محور تعز العسكري والأجهزة الأمنية الموالية له. هذه القبضة لم تُترجم إلى فرض الاستقرار أو حماية المدنيين، بل تحولت – بحسب مراقبين وحقوقيين – إلى أداة لتكريس الفوضى وشرعنة الإفلات من العقاب. 

ويظهر ذلك جليًا من خلال النهج المستمر في تمييع قضايا الاغتيالات وأعمال القتل الوحشية، حيث تتكرر سيناريوهات "التسليم الصوري" لمتهمين ثانويين أو شخصيات لا علاقة مباشرة لها بالجرائم، بينما يتم تحييد أو حماية الجناة الرئيسيين الذين غالبًا ما تربطهم علاقات وثيقة بمحور تعز العسكري أو قيادات بارزة في الحزب.

ولا تقتصر الممارسات على عمليات التسليم المضللة، بل تمتد إلى حملات أمنية شكلية تستعرض القوات في الشوارع وتبث رسائل إعلامية موجهة، لكنها تفتقر إلى أي نتائج عملية في كشف الحقائق أو تحقيق العدالة للضحايا. هذه الحملات – كما يرى أبناء المدينة – ليست سوى أدوات لإخماد الغضب الشعبي مؤقتًا وامتصاص الضغط المتزايد، قبل أن تعود الأمور إلى نقطة الصفر، تاركةً الجريمة بلا حساب والجناة أحرارًا في ارتكاب المزيد.

حادثة اغتيال مديرة صندوق النظافة والتحسين في تعز افتهان المشهري تمثل نموذجًا صارخًا لهذا النهج؛ إذ لم تكشف فقط عن هشاشة المنظومة الأمنية وعجزها، بل عرّت حجم التواطؤ مع المجرمين ومنفذي الهجوم الذين ثبت انتماؤهم إلى إحدى الأولويات العسكرية التابعة لمحور تعز الموالي للإصلاح. هذه الحادثة – بما تحمله من دلالات إنسانية وسياسية – هزّت وجدان المدينة وأعادت إلى السطح سؤالًا مؤلمًا: من يحمي تعز؟ هل هي المؤسسات الأمنية كما يُفترض، أم أن هذه المؤسسات باتت مظلة تحتمي بها العصابات والمليشيات الحزبية التي تُمعن في إذلال الناس وسفك دمائهم؟

عجز مزمن

تعاطي سلطات تعز مع جريمة اغتيال افتهان المشهري لم يخرج عن إطار العجز المزمن الذي يطبع تعاملها مع الجرائم السابقة، إذ بدا وكأنه نسخة مكررة من مشاهد مألوفة أثارت مرارًا سخط الشارع وخيبة أمله. فبدلًا من إجراءات رادعة تقود إلى محاسبة الجناة وإنصاف الضحايا، أعادت السلطات إنتاج السيناريو ذاته القائم على الاستعراض الأمني الفارغ عبر نشر أطقم في الشوارع، وتضخيم أخبار تسليم بعض المطلوبين أنفسهم إلى الشرطة العسكرية بصورة شكلية لا تتجاوز حدود "الاستراحة المؤقتة"، في انتظار أن تهدأ موجة الغضب الشعبي وتطوي المدينة صفحة جديدة من الدماء دون تحقيق العدالة.

الصحفي سامي نعمان يصف هذا المشهد بدقة حين يؤكد أن "التعامل مع جريمة اغتيال افتهان جاء مخزيًا وهزيلًا، يعكس عجزًا أخلاقيًا ومؤسسيًا في آن واحد". ويضيف أن ما يجعل الجريمة أكثر استفزازًا أنها استهدفت لأول مرة مسؤولة امرأة بهذا الشكل الوحشي، في سابقة خطيرة إذا لم يُتصدى لها قد تفتح الباب أمام تحوّل استهداف النساء القياديات والناشطات إلى أمر معتاد، بما يشكل تهديدًا مباشرًا للنسيج الاجتماعي ولدور المرأة في الحياة العامة والسياسية داخل تعز.

هذا النهج – بحسب مراقبين – لا يضر فقط بصورة الدولة وسلطاتها، بل يرسخ انطباعًا قاتمًا لدى المواطنين بأن المؤسسات الأمنية والعسكرية لم تعد سوى غطاء لعصابات حزبية تمارس نفوذها بلا رادع. وهو ما عمّق حالة انعدام الثقة بين الشارع والسلطة، وكرس شعورًا عامًا بأن دماء الأبرياء في تعز أضحت مجرد أوراق مساومة في صفقات سياسية أو حزبية ضيقة.

ويؤكد نعمان أن تعز "باتت بحاجة إلى دولة حقيقية تحمي مواطنيها من تغوّل المليشيات والعصابات، لا إلى سلطة تصدر بيانات مكرورة ووعود جوفاء تتبخر عند أول اختبار"، في إشارة إلى التصريحات الرسمية التي لا تتجاوز التنديد والشعارات المكرورة مثل "لن يفلتوا من العقاب" أو "دماء الشهداء لن تذهب هدرًا"، بينما الواقع يثبت العكس تمامًا، حيث تكررت مئات الجرائم السابقة دون أن ينال القتلة جزاءهم.

تحركات مخزية

في موازاة الغضب الشعبي العارم الذي عمّ شوارع تعز عقب اغتيال افتهان المشهري، سارعت سلطات المدينة إلى إطلاق حملة أمنية وُصفت على نطاق واسع بأنها مجرد استعراض إعلامي لا أكثر، إذ انتشرت الأطقم العسكرية في الشوارع والأحياء الداخلية، فيما تجنبت الوصول إلى المواقع الحقيقية التي يختبئ فيها القتلة المعروفون لدى الجميع. هذا التناقض فجّر موجة جديدة من السخط الشعبي، حيث اعتبر كثيرون أن السلطة الأمنية تتقن فن إدارة الغضب أكثر من ملاحقة المجرمين.

الإعلامي أدونيس الدخيني علّق بحدة على هذه الحملات، قائلاً: "حملة منصور الأكحلي منتشرة في كل أحياء تعز إلا الروضة وكلابه. يؤمنون المؤمن، في إشارة إلى سياسة القوات الإخوانية بالتراجع من الجبهات ضد الحوثيين لتأمين المناطق المحررة. انفجر غضب الناس وسيطر عليه إصلاح خالد فاضل ومنصور الأكحلي. تعز تعيش المأساة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وليس أمامها سوى الكفاح من أجل اجتثاث هؤلاء السقط".

ما قاله الدخيني يعكس حقيقة مفادها أن الحملات الأمنية في تعز لا تُدار بمنطق العدالة، بل تُستخدم كأداة سياسية وأمنية لحماية النفوذ وترويض الشارع. فالانتشار الأمني في الأحياء الآمنة يبعث برسالة مضللة بأن السلطة "حاضرة وقوية"، بينما الواقع يكشف أن القتلة ما زالوا طلقاء، وأن مناطق نفوذهم محمية باتفاقات ضمنية أو بغطاء حزبي مباشر.

النتيجة أن تعز تبدو – كما أضاف الدخيني – مدينة متروكة لمصيرها، حيث لم يجد الضحايا، وفي مقدمتهم افتهان، أي مظلة حقيقية للحماية، فواجهت مصيرها وحيدة في ظل غياب المحافظ، والأجهزة الأمنية، والقيادات النافذة. هذه الحادثة جسدت بوضوح مأساة مدينة تقاتل منذ أكثر من عقد، لكنها لم تحصد سوى الخيبات، إذ تُستنزف دماء أبنائها وبناتها فيما تتحول المؤسسات الأمنية إلى حارس لسلطة حزبية بدلًا من أن تكون أداة لحماية المجتمع وإنفاذ القانون.

سجل أسود