د. أمين العلياني

مليونية سيئون: عاهدت حضرميتها لتثبت جنوبيتها وجددت تفويض رئيسها

مقالات - منذ ساعتان

من رحم التاريخ العريق، ومن صميم الأرض الوفيَّة، تنهض سيئون كالطود الشامخ، حاملةً في ترابها عبق الحكمة، ورشف العلم، وسماحة التعايش؛ فمدينةٌ كانت -وما زالت- منارة للفكر والوسطية، وحصنًا للسلام في فضاءات حضرموت الرحبة، عاشت قرونًا مطمئنة إلى هويتها الجنوبية، وكانت قياداتها وقادتها بناة دولة الجنوب لما يمتازوا أبناء حضرموت من كفاءة وولاء وانتماء جنوبي منحهم ثقة أن يكونوا رجالات الدولة الاوائل في قيادتها وبنائها حتى ابتليت بأبشع محتلٍّ يمني شماليٍّ، غاشم الطبع، جشع النظر، فاختطف أرضها، ونهب خيراتها، وسلب ما تحت ثراها من ذهبٍ ومعادن، ثمَّ لم يترك لها سوى مرابع الخوف، وسموم الإرهاب، وطرق التهريب، وأوهام التفرقة، حتى ضيَّق على أهلها سبل العيش، وفرض عليهم المكوس الجائرة، ليكون الابتزاز هو لغته، والاستعباد هو غايته.

ولكن، أترى الظلم يطيل المكث في أرض العزَّة؟ أو ينهب المحتلُّ خيرات شعب الأباة وهو ساكن أرضه وانتماؤه الجنوب وهويته؟ كلا! فإنَّ شرارة الرفض التي انطلقت من سواحل حضرموت ووديانها، وصحاريها وهضابها، كانت الشرارة التي ولد منها المشروع الجنوبي السلمي الرافض للذل، الراغب في التحرر والاستقلال واستعادة دولة الجنوب العربي، فكانت إرادة حضرموت السياسية والشعبية هي المطرقة التي كسرت بها هذا الكابوس، ورفضت هذا الدخيل الذي لم يجلب سوى الدسائس في المعتقد، والتآمر على نسيج التعايش الاجتماعي المقدس، عبر استهدافه للأربطة الدينية والمؤسسات العلمية الرصينة، متذرعًا بأكاذيب استخباراتية مفتعلة، ليفسح المجال أمام مشاريع التطرف والإرهاب الإخوانية التي تريد تمزيق هذا النسيج، وتتخادم في الخفاء مع المشروع الحوثي الرافضي، وكأنما أرادوا تحويل حضرموت –وقلْبُها النابض سيئون– إلى ساحة صراعٍ مذهبيٍّ عبثي، يحرمها من أبسط حقوقها، ويجعل وجودها شكليًا انتهازيًّا على مقولة خطاب الاحتلال اليمني بمختلف توجهاته: يا حضرموت شمالية تحت وصايتنا يا أعلننا الولاء للحوثي كما صرح بهذا نائب وزير الخارجية الذي يمكن أن يوصف بالدبلوماسي صاحب الشريحتين الشرعية/ الحوثية.

وفي المشهد ذاته، يظهر المتحدثون المحتلون بأسماء حضرموت وواديها، من أمثال نجيب غلاب الذي يشغل وكيلًا لوزارة الإعلام والثقافة والسياحة لشؤون التلفزيون من ورفاقه الشماليين الكثير، ليحرضوا ليلًا ونهارًا– على الاقتتال الداخلي بين أبناء الجنوب داخل حضرموت، لكي يخلقوا من لا شيء فتنةً حضرمية – حضرمية، لشرعنوا بعدها أن البديل هو القاعدة والحوثي وعودة الاخوان الذي اخرجتهم القوات الجنوبية المسلحة من الأرض ومن المشهد برمته، واعتقد أن أمثال غلاب وأمثاله من الخونة يفكروا أن الإرهاب الثلاثي القاعدة والإخوان الحوثي هو البديل المطلوب! ثم يأتي الهارب رشاد العليمي، ليتخذ من حماية المدنيين في حضرموت شعارًا أجوف، يخفي تحته نكايةً بالجنوب وأهله، متناسيًا–أو متناسيًا بخبث– ما ارتكبه الحوثي في قيفة البيضاء وحَجور حجة وغيرها، ولماذا صمت إذن على تلك الجرائم أمثله فقط؟ إنها لعبة سياسية قذرة، هدفها التضليل والتبرير، وإيهام التحالف بأن سيطرة الانتقالي على حضرموت ستعزز بقاء الحوثي، وكأن حضرموت تحرره من الثلاثي الإرهابي الحوثي والقاعدة والاخوان بفضل رشاد العليمي! وهي حجة واهية تنم عن جهلٍ مطبق، أو خبثٍ مبيت.

من هنا، ومن هذا المنطلق الوطني الخالص، خرجت سيئون أمس بمليونية بثقلها التاريخي، ووعيها السياسي، ووفائها الجنوبي الأصيل، لتلقي بالردِّ الحاسم على كل هذه النوايا الخبيثة، ولتجدد –بملامح قوية– مطلبها دولة الجنوب العربي وتجدد بالولاء. التفويض المطلق لفخامة الرئيس الزعيم عيدروس بن قاسم الزبيدي. فكانت “المليونية” العظيمة، التي انطلقت عفوية سريعة، كالسيل الهادر، لتملأ الساحات، وتعلن بصوتٍ واحد: ها نحن أبناء الجنوب العربي، أحياء على العهد، أوفياء للشهداء، جادون في إثبات هويتنا، ومجددون التفويض المطلق لقائد مسيرتنا، الرئيس القائد عيدروس الزبيدي، ليمضي قدمًا في تحقيق حلمنا الأكبر: إعلان دولة الجنوب العربي.

لقد جاءت الحشود في سيئون كالصاعقة، لتؤكد أن الإرادة الشعبية ليست شعارًا يُرفع، بل واقعًا يُصنع، وليثبت أن القرار الشعبي سبق كل الحسابات الضيقة، وتجاوز كل المناورات الماكرة. من اللحظات الأولى، كانت سيئون حاضرة بكل أطيافها وجماهيرها، تقول كلمتها بلا تردد، وترسم خارطة طريقها بلا وجل.

إنها مليونية تُختصر فيها الرسالة: سيئون اليوم لا تمثل نفسها فقط، بل تعبّر عن نبض الجنوب العربي كله، وسرعة الاستجابة، والحضور الكثيف، ليسا إلا دليلًا ساطعًا على حجم القناعة الراسخة، والوعي الناضج، بقدسية اللحظة التاريخية التي نعيشها نحن كشعب في الجنوب. إنها تثبت أن الوفاء للشهداء ليس رثاءً، بل حركةٌ جماهيرية جارفة على الأرض، وأن الجنوب قضية جامعة لا فئوية، ومشروع مصيري لا مساومة فيه.

ما تشهده سيئون اليوم هو استفتاء شعبي حي، ونوعي، على استعادة دولة الجنوب العربي، وهي تقولها بالفعل قبل القول: الجنوب خيارنا، والدولة وعدنا، وإن هذه المليونية تكشف، بكل وضوح، أن أي رهانٍ على صمت سيئون أو حيادها، هو رهان خاسر، وأن أي محاولة لتهميش دورها، هي محاولة فاشلة.

لقد أثبتت سيئون حضورها وثقلها، وأعادت تعريف المشهد الجنوبي برمته: فحين يتوحد الشعب، وتتحد الإرادة، وتصفو النوايا، تُصنع الدول، وتُختصر الطرق
وكان هذا الحشد المنظم السريع، وهذا الاصطفاف الواسع، يؤكدان أن الجنوب قد اكتملت عدته السياسية والشعبية، وجاهز لرحلته الحاسمة نحو دولته واستعادتها على كامل ترابها.
من سيئون، ينطلق مشهد الدولة الجديدة: شعب موحد، قرار واضح، وعهد متجدد لا يتراجع، ومن سيئون، يتقدم الجنوب خطوة حاسمة نحو مستقبله، والمشهد أصبح الآن يختصر كل الكلام: حين يجتمع الشعب، يتقدم المشروع.

أما فخامة الرئيس القائد عيدروس الزبيدي، فله منا الوفاء والتفويض، وهو الدينامو الذي حَظِيَ بثقة شعبه – وهذا ما أقرته سيئون – فلن يخسر المسيرة، بل سيقودها إلى بر الأمان، لأن خسارته، في نظر هذا الشعب الواعي، تعني انهيار الحلم، وهذا ما لن يسمح به أبدًا شعبٌ قدم في سبيل استعادة دولة الجنوب العربي الغالي والنفيس.

سيئون وقفت… والجنوب انتصر.

فيديو