ما هي مقومات الصين في تشكيل نظام عالمي متعدد الاقطاب؟

دراسات وتحليلات - منذ 1 يوم

عين الجنوب | تحليل - خاص


نماذج شرقية نحو إعادة تعريف معايير النفوذ والعلاقات الدولية، حيث تبرز الصين كفاعل مركزي قادر على تقديم نموذج بديل للنموذج الذي هيمن على النظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. هذا التحول هو عملية تاريخية عميقة الجذور، تستند إلى مجموعة متكاملة من العوامل الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والثقافية التي تشكل في مجملها مقومات القوة الصينية المعاصرة.

في الجانب الاقتصادي، تمثل الصين ظاهرة فريدة في التاريخ الاقتصادي الحديث. من دولة زراعية فقيرة إلى ثاني أكبر اقتصاد عالمي خلال أربعة عقود فقط، وهو تحول غير مسبوق في سرعته وحجمه. يشكل الناتج المحلي الإجمالي الصيني الذي تجاوز 18 تريليون دولار في 2023، نحو 18.5% من الاقتصاد العالمي، مقارنة بـ 24% للولايات المتحدة. لكن الأهم من حجم الاقتصاد هو طبيعة هذا النمو واتجاهاته الاستراتيجية. فالصين لم تكتفِ بأن تكون مصنع العالم، بل انتقلت بوعي استراتيجي إلى مرحلة أكثر تقدماً في سلسلة القيمة العالمية. مشاريع مثل (صنع في الصين 2025) والاستراتيجية الوطنية للذكاء الاصطناعي تعكس رؤية طموحة لريادة الصين على تقنيات المستقبل، من أشباه الموصلات إلى الطاقة النظيفة والاتصالات من الجيل السادس.

مبادرة الحزام والطريق تمثل التجسيد العملي لهذه الرؤية الاستراتيجية. ما بدأ كمشروع لتمويل البنية التحتية في الدول النامية تحول إلى شبكة معقدة من المصالح الاقتصادية والسياسية التي تربط عشرات الدول بالنظام الاقتصادي الصيني. الاستثمارات الصينية المباشرة في دول الحزام والطريق تجاوزت 900 مليار دولار منذ 2013، مع تركيز واضح على قطاعات استراتيجية مثل الموانئ والسكك الحديدية والطاقة. هذه المشاريع لا تنقل فقط التقنية الصينية ورؤوس الأموال، بل تصدر أيضاً المعايير الصينية والنماذج التشغيلية الصينية، مما يعزز النفوذ السياسي والثقافي على المدى الطويل.

على صعيد النظام المالي الدولي، تشكل الصين تحدياً متزايداً لهيمنة الدولار الأمريكي. نظام المدفوعات عبر الحدود (CIPS) الصيني، وإن كان لا يزال أصغر من نظام SWIFT التقليدي، فقد نما بنسبة 75% خلال السنوات الثلاث الماضية. اتفاقيات مبادلة العملات التي أبرمها البنك المركزي الصيني مع 40 بنكاً مركزياً أخرى، إلى جانب الترويج لليوان الرقمي، كلها مؤشرات على استراتيجية متدرجة ولكنها ثابتة لإضعاف هيمنة الدولار. في مجال التمويل التنموي، أصبح البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، برأسمال 100 مليار دولار، منافساً حقيقياً للبنك الدولي في العديد من الأسواق الناشئة.

في المجال العسكري والأمني، يشهد العالم تحولاً صامتاً ولكن بالغ الأهمية. الميزانية الدفاعية الصينية التي بلغت 225 مليار دولار في 2023، وإن كانت لا تزال أقل من نظيرتها الأمريكية، فإنها تنمو بمعدلات ثابتة تتراوح بين 6-7% سنوياً. لكن الأهم من حجم الإنفاق هو كفاءة التخصيص والتركيز على تطوير قدرات غير تقليدية. استراتيجية "الإنكار المضاد للوصول/منعة المنطقة" (A2/AD) التي تعتمد على أنظمة الصواريخ المتطورة مثل DF-21D وDF-26، تمنح الصين قدرة على إبعاد القوات الأمريكية عن محيطها الإقليمي دون الحاجة إلى منافستها في القوة البحرية التقليدية. التطورات في مجال الحرب الإلكترونية والذكاء الاصطناعي العسكري، إلى جانب البرنامج الفضائي الطموح، كلها تعزز من قدرات الصين كقوة عسكرية متكاملة.

على المستوى الدبلوماسي، تتبع الصين استراتيجية متعددة المستويات تجمع بين تعميق العلاقات الثنائية وإعادة تشكيل المؤسسات متعددة الأطراف. من خلال آلية "16+1" مع دول أوروبا الشرقية، ومنتدى التعاون الصيني-الأفريقي (FOCAC)، وعلاقات الشراكة الاستراتيجية مع روسيا والدول الأوراسية، تنسج الصين شبكة معقدة من التحالفات المرنة. في الوقت نفسه، تعمل على تعزيز دور مجموعات مثل بريكس ومنظمة شانغهاي للتعاون كبدائل للمؤسسات التقليدية. الدبلوماسية الصينية تتميز بالمرونة والبراغماتية المتزنة، حيث تتعامل مع أنظمة سياسية متناقضة.

أيضاً القوة الناعمة الصينية تشكل بعداً آخر في هذه الاستراتيجية الشاملة. معاهد كونفوشيوس المنتشرة في 162 دولة، وزيادة عدد الطلاب الأجانب في الجامعات الصينية إلى أكثر من 500 ألف، وانتشار المحتوى الثقافي الصيني عبر منصات مثل TikTok، كلها أدوات تعزز الصورة الدولية للصين. مؤشر القوة الناعمة الصادر عن معهد براند فاينانس يظهر تقدم الصين إلى المركز الثالث عالمياً في 2023، متجاوزة قوى تقليدية مثل فرنسا وبريطانيا.

ومع هذه المقومات الكبيرة، تواجه الصين تحديات جسيمة قد تعيق طموحاتها العالمية. تباطؤ النمو الاقتصادي إلى حوالي 5%، والمنافسة التكنولوجية مع الغرب خاصة في مجال أشباه الموصلات، كلها عوامل قد تحد من القدرة الصينية على الاستمرار في التوسع العالمي بنفس الوتيرة. التوترات التجارية مع الولايات المتحدة، وتصاعد المشاعر المعادية للصين في أوروبا وأجزاء من آسيا، تشكل عوائق إضافية أمام الطموحات الصينية.

التفاعل بين هذه العوامل جميعاً يحدد مسار التحول في موازين القوى العالمية. الصين لا تسعى بالضرورة إلى الإستبدال بنموذج صيني مماثل لسابقه، بل تعمل على تشكيل نظام دولي أكثر تعددية حيث تكون مركزاً رئيسياً بين عدة مراكز قوة. هذا التحول، إذا نجح، سيشكل إعادة تعريف جذرية للنظام الدولي الذي هيمنت عليه القوى التقليدية منذ القرن التاسع عشر. لكن نجاح هذا المشروع يعتمد على قدرة الصين على إدارة تناقضاتها الداخلية وتحدياتها الخارجية مع الحفاظ على زخم صعودها الاستراتيجي في عالم يتسم بدرجة متزايدة من التنافس والاضطراب.

فيديو