«الفتوحات الجديدة: كيف يُعيد القاعدة إنتاج ذاته من إفريقيا؟

دراسات وتحليلات - منذ 1 يوم

عين الجنوب|| south24"

لم تعد إفريقيا ساحة خلفية، بل قلب الرهان الجهادي الجديد لتنظيم القاعدة، وبيئة مثالية لمشروع "التمكين"، الذي يعتمد على التمدد الصامت والتغلغل المجتمعي بدلا من المواجهة المباشرة."

في خطوة غير مألوفة، أصدر تنظيم القاعدة في اليمن بيانا [1] بارك فيه تصاعد عمليات أفرع التنظيم في الصومال، مشيدا بما وصفه بـ"الفتوحات الجهادية" التي تحققت هناك. وفي الوقت ذاته، أعرب التنظيم عن استيائه من التجاهل الإعلامي الذي تواجهه تلك العمليات، متهما وسائل الإعلام الدولية والإقليمية بتعمد التعتيم على ما يعتبره "إنجازات" جناحه في القارة الإفريقية.

كما إنّ دعوة التنظيم العلنية لوسائل الإعلام بتسليط الضوء على نشاطه تعد الأولى من نوعها، وتعكس فيما يبدو أزمة متصاعدة في قدرته على تسويق نفسه كقوة فاعلة ضمن مشهد الجماعات المسلحة.

لماذا تعود القاعدة للمشهد الإعلامي؟

منذ إعلان تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) إقامة "خلافة" في العراق وسوريا عام 2014، سحب البساط من تحت أقدام القاعدة إعلاميا، وتم تهميشها حتى في مناطق كانت تعد معاقلها التاريخية. بل إن العديد من الفصائل المرتبطة بها واجهت انقسامات حادة، إما بالتحول نحو داعش أو بتفكك تنظيمي بسبب الانشقاقات والصراعات المحلية. ويبدو أن دعوة القاعدة إلى تسليط الضوء الإعلامي على نشاطها تمثل محاولة لاستعادة زمام المبادرة في الوقت الذي يشهد فيه تنظيم داعش تراجعا جغرافيا وبشريا ملحوظا. وإذا كان الإعلام قد لعب دورا في تضخيم صورة تنظيم "الدولة الإسلامية" خلال سنوات صعوده، فإن القاعدة تحاول اليوم أن تعيد تدوير نفس الاستراتيجية، ولكن من بوابة المظلومية الإعلامية.

وعلى رغم غياب ذكر تنظيم الدولة صراحة في البيان، فإن المنافسة بين التنظيمين واضحة. داعش خطف الأضواء بخطابه العنيف وصورته الصاخبة، ما جذب الجيل الجهادي الجديد. اليوم، وبعد تراجع داعش، تحاول القاعدة أن تثبت أنها الأكثر ثباتا وتنظيما، لا عبر المواجهة المباشرة، بل من خلال استراتيجية صامتة تتكئ على الواقع المحلي.

إفريقيا ساحة خلفية أم خط المواجهة؟

لم يعد سرّا أن نشاطات تنظيم القاعدة في جزيرة العرب (اليمن)، أو في بلاد المغرب الإسلامي (الجزائر والساحل)، باتت محدودة ومطوقة، في حين أن أفرعه الجديدة في غرب ووسط إفريقيا بدأت تكتسب زخما وفعالية ميدانية. فشبكات مثل "حركة الشباب" و "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" وغيرها من الفصائل المبايعة للقاعدة، باتت تتمدد وتراكم المكاسب على الأرض، مستفيدة من هشاشة الدول، وغياب التنمية، والتهميش العرقي أو الإثني. هذه الفصائل لا ترفع راية داعش، بل تتبع خط القاعدة في التحالفات المحلية، وعدم التصادم المباشر مع المجتمعات القبلية، وهي إستراتيجية تعكس تحولا تدريجيا في نهج التنظيم.

ومن هنا، فإن مطالبة القاعدة لوسائل الإعلام بتغطية أنشطته في إفريقيا ليست فقط محاولة لتحسين صورته، بل أيضا إعلان بأن الساحة الإفريقية باتت هي رهانه المستقبلي لتصدر المشهد الجهادي. فالتنظيم يدرك أن غياب التغطية الإعلامية يعني بقاء عملياته معزولة عن الوعي الجهادي العام، ما يقلل من فرصه في استقطاب الأنصار والتمدد التنظيمي، خاصة في ظل التنافس المحموم مع تنظيم الدولة الذي يستثمر إعلاميا في كل هجوم مهما صغر حجمه.

كما تعكس هذه المطالبة محاولة لإعادة تعريف مركز الثقل الجهادي عالميا، بعيدا عن مناطق النفوذ التقليدية كأفغانستان وباكستان واليمن وسوريا. فإفريقيا ــ بتشظياتها الأمنية، وهشاشة أنظمتها، وتنامي التنظيمات المسلحة فيها ــ تمثل بالنسبة للقاعدة بيئة مثالية لصياغة طور جديد من مشروعها، لا يعتمد فقط على العمليات العسكرية، بل أيضا على خلق رمزية جديدة تعيد للتنظيم بريقه الإعلامي، وتحجز له مكانا متقدما في الذاكرة الجهادية المعاصرة.

من الانكفاء إلى المنافسة: مقارنة القاعدة وداعش

على رغم أن تنظيم القاعدة لم يُهزم بشكل نهائي في أي من ساحاته التقليدية، سواء في أفغانستان أو اليمن أو شمال إفريقيا، فإن مسيرته منذ عام 2011 اتخذت منحى انحداريا حادا. فقد تلقى التنظيم نكستين استراتيجيتين أثرتا بعمق على بنيته وتماسكه الرمزي. الأولى كانت باغتيال مؤسسه وزعيمه التاريخي، أسامة بن لادن، وهو الحدث الذي شكّل صدمة معنوية وتنظيمية أربكت قياداته، وأفقدته قدرا كبيرا من الهالة التي أحاطت بشخصيته. أما النكسة الثانية، فكانت الصعود الكاسح لتنظيم داعش بعد 2014، وتمكنه من خطف الأضواء والهيمنة على المشهد الجهادي العالمي في وقت قياسي.

بعد هاتين النكستين، وجدت القاعدة نفسها فجأة في مواجهة جمهور جهادي جديد، أكثر ميولا نحو العنف الفج والاستعراض الدموي، جمهور يميل إلى الحسم السريع ويفضّل الرمزية الصاخبة على الخطاب العقلاني المرحلي. هذه المتغيرات لم تكن تصب في مصلحة القاعدة، التي طالما عرفت بتحفظها النسبي، واستراتيجياتها الطويلة النفس، وتحالفاتها المحلية المعقدة التي كانت تتطلب في أحيان كثيرة المهادنة أو التراجع التكتيكي. وأمام هذا التحول، بدا التنظيم وكأنه فقد جاذبيته لدى الجيل الجهادي الجديد الذي رأى في تنظيم "الدولة الإسلامية" نموذجا أكثر ديناميكية وراديكالية.

وبمرور الوقت، ربما تراكم شعور داخل أجنحة القاعدة بأن التنظيم يُظلَم إعلاميا، لصالح خصومه، خصوصا داعش الذي كان يتم تضخيمه حتى في إخفاقاته. وهكذا، فإن دعوة القاعدة الأخيرة لوسائل الإعلام بتغطية نشاطها المتصاعد في إفريقيا لا يمكن قراءتها فقط كمسعى لاستعادة الحضور في المشهد الجهادي، بل تعكس كذلك رغبة عميقة في تصحيح ما تعتبره "انحيازا إعلاميا" فادحا تجاه أطراف أخرى. فالتنظيم يريد من العالم أن يرى أنه لم يختفِ، وأنه لا يزال حاضرا بقوة في ميادين جديدة حتى وإن كانت خارج دوائر الاهتمام المعتادة. وهذا ما يمكن فهمه بوضوح من بيان قاعدة اليمن الأخير.

وفي هذا السياق، تكتسب أفريقيا أهمية مزدوجة: فهي ليست مجرد ميدان قتالي بديل، بل منصة استراتيجية يأمل التنظيم من خلالها في إعادة إنتاج صورته وفرض نفسه كلاعب مركزي في الخريطة الجهادية العالمية.

اللافت في البيان أنه لم يكتفِ بالحديث عن تجاهل إعلامي، بل قدّم إفريقيا بوصفها البيئة الأهم الآن في المواجهة مع "قوى الاستكبار". التنظيم وصف ما يحدث في بعض مناطق إفريقيا بالجهاد المتصاعد الذي سيغير موازين القوى، في إشارة واضحة إلى أنه لم يعد ينظر إلى القارة كساحة ثانوية، بل كـ"رأس الحربة" في مشروعه المستقبلي.



ويدرك المتابع لتطورات الأوضاع في الساحل الإفريقي ووسط القارة أن هذا التحوّل لم يأتِ من فراغ، إذ صعدت في السنوات الأخيرة فصائل تابعة للقاعدة، أبرزها "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" في مالي، و"أنصار الإسلام" في بوركينا فاسو، إضافة إلى شبكات متفرعة تنشط في النيجر، نيجيريا، تشاد، والصومال. هذه الفصائل تزايد نفوذها بشكل لافت، وحققت اختراقات عسكرية ومجتمعية في مناطق كانت خارج نفوذ الجماعات الجهادية سابقا.

اقرأ أيضًا: من آسيا إلى أفريقيا: تنظيم القاعدة يعيد رسم خريطته الجهادية

أفغانستان جديدة بشروط مختلفة

حين يقول البيان إن ما يجري في إفريقيا "سيغير موازين القوى"، فهو لا يكتفي بإعلان وجود، بل يرسم خريطة نفوذ جغرافي وسياسي جديدة. ومن خلال هذه القراءة، يمكن فهم أن التنظيم يرى في إفريقيا الفرصة التي ضاعت عليه في بلدان أخرى كاليمن وأفغانستان وغيرها، والساحة التي قد تعيد إليه دوره المركزي في العالم الجهادي بعد عقد من التراجع.

لكن المقارنة مع أفغانستان لا تعني بالضرورة تكرار السيناريو. فإفريقيا، بتركيبتها العرقية والدينية، وبحدودها السياسية الهشة، وبصراعاتها الممتدة، تمثل بيئة أكثر تعقيدا من أفغانستان. وهي في الوقت نفسه أكثر تهيئة لأن تصبح مركزا دائما للجماعات المسلحة، نظرا لضعف مؤسسات الدولة، وانتشار الفساد، وتدهور الأوضاع الاقتصادية.
وفي هذا السياق، يبدو أن القاعدة نجحت، ولو جزئيا ـ في التحول من تنظيم مركزي إلى شبكة محلية متأقلمة مع ظروف المجتمعات الإفريقية. إذ بات خطابها يركّز على محاربة ما يسميها "الأنظمة المرتدة"، وليس فقط العدو البعيد، كما يقدّم نفسه كمدافع عن المظلومين والمهمشين، وهو خطاب يتماهى نسبيا مع الوجدان المحلي.

واللافت في البيان أن تنظيم القاعدة في اليمن وصف العمليات المتنامية لأفرع التنظيم في إفريقيا بـ"الفتوحات"، رابطا إياها بشكل مباشر بمفهوم "تفكيك النظام العالمي". هذا الوصف، أي استخدام مصطلح "الفتوحات"، يهدف إلى استدعاء رمزية دينية وتاريخية قوية تستحضر عصور التوسع الإسلامي. 

ولا شك أن هذا الاختيار ليس اعتباطيا، بل هو محاولة لرفع معنويات أنصار التنظيم وإقناعهم بأن ما يجري في إفريقيا ليس مجرد عمليات عنف متفرقة، وإنما "بداية نصر تاريخي". ويرمي هذا الخطاب إلى استقطاب المزيد من العناصر، خاصة الشباب المتحمس، عبر تصويرهم كجزء من مشروع تحوّل حضاري يتجاوز حدود المعارك المحلية.

ماذا يعني صعود القاعدة في إفريقيا؟

بعدما كانت الأنظار مركزة على سوريا والعراق واليمن، يبدو أن ساحات التوتر الحقيقية باتت تنتقل نحو الساحل الإفريقي. صراعات نيجيريا، مالي، النيجر، وبوركينا فاسو أصبحت محط اهتمام دولي، حيث تتداخل فيها الأطماع الاقتصادية الغربية، والمشاريع الجيوسياسية الروسية والصينية، مع نشاط الجماعات المسلحة.

وأكثر ما تخشاه الحكومات الإفريقية اليوم هو أن تنجح القاعدة في تقديم نفسها كقوة بديلة عن الدولة. وقد حدث ذلك فعلا في مناطق من شمال مالي، حيث أصبحت الجماعات المسلحة توفّر الأمن على طريقتها، وتدير النزاعات المحلية، وتفرض الضرائب.

وإذا كانت القاعدة ترى في إفريقيا ساحة "الفرصة الجهادية الكبرى"، فإن ذلك يعني أننا أمام مرحلة جديدة من تطور التنظيم. لم يعد يراهن على تنفيذ عمليات نوعية في الغرب، ولا على استهداف الأنظمة المركزية القوية، بل على استنزاف الأنظمة الهشة، وبناء قواعد دعم محلية، وخلق نفوذ سياسي على المدى الطويل.

خلاصة استراتيجية

بيان قاعدة اليمن لم يكن مجرد مباركة أو شكوى إعلامية من التهميش، بل إعلان عن تحوّل استراتيجي في هوية التنظيم وأولوياته الجغرافية. كما أن إفريقيا لم تعد ساحة خلفية، بل قلب الرهان الجهادي الجديد، وبيئة مثالية لمشروع "التمكين"، الذي يعتمد على التمدد الصامت والتغلغل المجتمعي بدلا من المواجهة المباشرة. هذا التحوّل يحمل دلالات عميقة تشير إلى أنّ القاعدة تحاول تجاوز عقدة "الانكفاء" عبر بوابة محلية أكثر واقعية، تراهن فيها على الإعلام لا كواجهة فقط، بل كسلاح رمزي لإعادة تموضعها في الذاكرة الجهادية العالمية.

وهنا، يبرز دور الإعلام وصناع القرار بضرورة إدراك انّ ما يجري في إفريقيا ليس شأنا محليا، بل تحول ذو أبعاد عابرة للقارات، وتجاهله قد يعني ترك المساحة لجماعة تمرّنت طويلا على الاستفادة من الفراغات.

فيديو