تحليل: لماذا لم يحترم الشماليين رغبه الجنوبيين في استعاده وبناء دولتهم؟؟

السياسة - منذ ساعتان

خاص ||عين الجنوب        

لم يكن رفض الشماليين احترام قرار الجنوبيين في بناء دولتهم موقفًا عابرًا أو ردّة فعل آنية، بل هو نتاج تراكم طويل من الذهنية السياسية التي تشكّلت بعد وحدة عام 1990، حين أُفرغ مفهوم الشراكة من مضمونه الحقيقي، وتحولت الوحدة من عقدٍ سياسي بين طرفين إلى أداة هيمنة لطرف واحد. منذ اللحظة الأولى، لم تُدار الوحدة بوصفها مشروعًا وطنيًا متوازنًا، بل كعملية ضمّ تدريجي، تُدار من مركز النفوذ في صنعاء، وتُفرض على الجنوب كأمر واقع لا يقبل النقاش أو المراجعة.

تعود جذور الأزمة إلى العقلية المركزية التي رأت في الجنوب مساحة جغرافية وثروة اقتصادية وموقعًا استراتيجيًا، لا شعبًا له تاريخ ودولة وهوية سياسية. هذه العقلية لم تعترف يومًا بأن الجنوب دخل الوحدة طوعًا، وبإرادة سياسية واضحة، وأن من يدخل باتفاق من حقه أن يخرج منه حين يفشل هذا الاتفاق وتُداس بنوده. لكن الاعتراف بهذا الحق يعني بالنسبة للنخب الشمالية انهيار سردية “اليمن الواحد” التي استُخدمت غطاءً للاستحواذ على السلطة والثروة، ولذلك جرى التعامل مع أي مطالبة جنوبية على أنها تهديد وجودي، لا مطلبًا سياسيًا مشروعًا.

بعد حرب 1994، انتقل الموقف من عدم الاحترام إلى الإقصاء الكامل. لم تكن تلك الحرب دفاعًا عن وحدة متكافئة، بل كانت فرضًا لوحدة بالقوة، أُخرج فيها الجنوب من المعادلة السياسية، وجُرّد من مؤسساته، وتم نهب مقدراته، وتحويل كوادره إلى هامش الدولة. منذ ذلك التاريخ، لم يعد الجنوب شريكًا في الدولة، بل منطقة خاضعة تُدار بعقلية الغنيمة، وهو ما عمّق الشرخ النفسي والسياسي بين الطرفين، وجعل أي حديث لاحق عن “الوحدة” فاقدًا للمصداقية لدى الشارع الجنوبي.

اقتصاديًا، لم يكن تجاهل إرادة الجنوبيين منفصلًا عن المصالح. فخسارة الجنوب تعني فقدان الموانئ والممرات البحرية والثروات النفطية والغازية، وتعني أيضًا انهيار شبكات نفوذ راكمت ثرواتها خلال عقود من السيطرة على موارد الجنوب. ولهذا، لم يكن مستغربًا أن يُواجَه مشروع استعادة الدولة الجنوبية بحملات تخوين وشيطنة، وأن يُصوَّر على أنه مؤامرة خارجية، في محاولة لتغييب الحقيقة الأساسية: أن هذا المشروع هو نتاج ظلم طويل وفشل ذريع لدولة ما بعد الوحدة.

سياسيًا، تخشى القوى الشمالية أن يفتح الاعتراف بحق الجنوب باب المساءلة حول فشلها في إدارة الدولة، وحول مسؤوليتها المباشرة في انهيار المؤسسات وانتشار الفساد والحروب. فالاعتراف بحق تقرير المصير للجنوبيين لا يعني فقط قبول واقع جديد، بل يعني أيضًا الإقرار بأن النموذج الذي حكم اليمن لعقود كان نموذجًا فاشلًا، وأن شعارات “الوحدة” استُخدمت لإدامة السلطة لا لبناء دولة عادلة.

إعلاميًا، جرى تسخير المنابر المختلفة لتزييف الوعي، فبدل مناقشة جذور القضية الجنوبية، تم الهروب إلى خطاب التخوين وربط كل صوت جنوبي بالعمالة أو الارتباط الخارجي، وكأن الملايين الذين خرجوا في الساحات وقدموا التضحيات لا يملكون وعيًا أو إرادة. هذا الخطاب لم يزد الجنوب إلا قناعة بأن مشكلته ليست في سوء الفهم، بل في إنكار متعمد لحقه في تقرير مصيره.

في جوهر المسألة، لا تكمن المشكلة في مطالبة الجنوبيين بدولتهم، بل في رفض جزء كبير من النخبة الشمالية التخلي عن امتيازات تاريخية بُنيت على حساب الجنوب. فالدولة التي يريد الجنوبيون استعادتها ليست مشروع كراهية أو انتقام، بل مشروع كرامة وعدالة وبناء مؤسسات، بعد أن أثبتت التجربة أن الشراكة القسرية لا تنتج استقرارًا، وأن الوحدة التي لا تقوم على الرضا والعدل مصيرها الانهيار.

لهذا كله، لم يُحترم قرار الجنوبيين، لا لأنه غير مشروع، بل لأنه يهدد منظومة كاملة من النفوذ والسيطرة. ومع ذلك، فإن مسار التاريخ يؤكد أن إرادة الشعوب لا تُلغى بالتخوين ولا تُهزم بالإعلام، وأن الجنوب الذي صبر طويلًا بات اليوم أكثر وعيًا بحقوقه، وأكثر إصرارًا على استعادة دولته، بوصف ذلك خيارًا سياسيًا وشعبيًا لا رجعة عنه، مهما طال الزمن أو اشتدت محاولات الالتفاف عليه.

فيديو