واشنطن تضرب في العمق

تقارير - منذ 1 يوم

عقوبات جديدة على كوريا الشمالية وروسيا في لعبة الشطرنج الجيوسياسية

عين الجنوب | خاص

تتصاعد التوترات الدولية مع إعلان واشنطن، يوم الاثنين، عن عقوبات جديدة تستهدف شخصيات ومؤسسات محورية تدير الأنشطة المالية غير المشروعة لكوريا الشمالية، وتوفر دعماً عسكرياً لروسيا. هذه العقوبات لم تأتِ بشكل منفرد، بل تندرج ضمن استراتيجية شاملة تهدف إلى كبح طموحات بيونغ يانغ النووية وإضعاف التحالف المتنامي بين موسكو وبيونغ يانغ، والذي بات يشكل تهديداً مباشراً للمصالح الغربية على المسرح العالمي. فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، بدأ تحالف غير متوقع يتشكل بين روسيا وكوريا الشمالية، مدفوعاً بتشابك المصالح الاستراتيجية لكل منهما. روسيا، المثقلة بعقوبات اقتصادية خانقة، وجدت في كوريا الشمالية حليفاً يوفر دعماً عسكرياً، خاصة من خلال توريد الأسلحة والذخائر لقواتها. على الجانب الآخر، ترى بيونغ يانغ في هذا التحالف فرصة ذهبية لتحسين اقتصادها المتدهور والحصول على دعم سياسي في مواجهة الضغوط الأمريكية.

في هذا السياق، جاءت العقوبات الأمريكية الجديدة لتوجيه ضربة لهذا التحالف. فقد شملت القائمة مصارف كورية شمالية تُستخدم كقنوات لتمويل الأنشطة غير المشروعة، ومسؤولين كوريين يتولون إدارة عمليات مالية غامضة تشمل غسيل الأموال وتحويلات غير قانونية تدعم برامج الأسلحة النووية. كما طالت العقوبات شركات شحن روسية متخصصة في نقل المحروقات، وهو ما يشير إلى استهداف مباشر للبنية اللوجستية التي تدعم التعاون بين الجانبين. هذه العقوبات الجديدة تحمل أكثر من مجرد أبعاد اقتصادية؛ فهي رسالة سياسية متعددة الأطراف. إلى كوريا الشمالية، تعني العقوبات أن واشنطن لن تتهاون مع طموحاتها النووية أو دعمها لروسيا في حرب أوكرانيا. أما لموسكو، فهذه الخطوة بمثابة تأكيد على أن الغرب لا يزال يحتفظ بأدوات ضغط فعّالة يمكنه استخدامها لعرقلة الجهود الروسية لتجاوز العقوبات المفروضة عليها. أما الحلفاء، وخاصة في آسيا، فالعقوبات تحمل تطمينات بأن الولايات المتحدة ملتزمة بمواجهة تهديدات كوريا الشمالية، خاصة مع تصاعد القلق في كوريا الجنوبية واليابان من تجارب بيونغ يانغ الصاروخية المتكررة.

لكن على الرغم من قوة هذه العقوبات، فإن التحدي الحقيقي يكمن في تطبيقها بفعالية. كوريا الشمالية أظهرت مراراً قدرتها على التكيف مع العقوبات الاقتصادية من خلال شبكات غير قانونية تمتد عبر دول مختلفة. كذلك، تملك روسيا خبرة طويلة في الالتفاف على العقوبات، مما يجعل من الصعب توقع تأثير فوري لهذه الإجراءات.
الأهم من ذلك هو أن هذه العقوبات تأتي في وقت حساس للغاية. الولايات المتحدة تدرك أن التحالف بين موسكو وبيونغ يانغ ليس مجرد شراكة تكتيكية، بل هو جزء من إعادة تشكيل موازين القوى العالمية. هذا التحالف يقدم لكلتا الدولتين فرصة لتقويض النفوذ الأمريكي في آسيا وأوروبا.

في مواجهة هذا التحدي، يبدو أن واشنطن تحاول وضع خطوط حمراء واضحة. دعم كوريا الشمالية لروسيا لا يهدد فقط أمن أوروبا، بل يشكل خطراً مباشراً على الاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث تسعى الولايات المتحدة لتعزيز وجودها وتحالفاتها لمواجهة الصين وكوريا الشمالية.

الإجراءات الأخيرة ليست سوى فصل من معركة أوسع تخوضها الولايات المتحدة على عدة جبهات. فمنذ بداية الحرب في أوكرانيا، وضعت واشنطن هدفاً استراتيجياً يتمثل في عزل روسيا اقتصادياً ودبلوماسياً. وفي الوقت نفسه، تعمل على تقويض برامج كوريا الشمالية النووية التي تهدد الاستقرار الإقليمي. هذه العقوبات تُظهر أن واشنطن تدرك تماماً أهمية معالجة هذين التحديين بشكل متكامل. فكل نجاح تحققه موسكو أو بيونغ يانغ على الصعيد العسكري أو الاقتصادي يُترجم إلى تهديد مباشر للمصالح الأمريكية والغربية.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن هو إلى أي مدى يمكن لهذه العقوبات أن تُحدث تغييراً في سلوك روسيا أو كوريا الشمالية. تاريخياً، أظهرت الدولتان قدرة على تحمل العقوبات والتكيف معها، مما يعني أن تأثير الإجراءات الأمريكية قد يكون محدوداً على المدى القصير. لكن على المدى البعيد، قد تدفع هذه الضغوط الاقتصادية والسياسية بيونغ يانغ وموسكو إلى البحث عن خيارات أخرى. من المحتمل أن تتجه كوريا الشمالية نحو تعزيز علاقاتها مع الصين، التي تبقى شريكها الاقتصادي الأكبر. أما روسيا، فقد تلجأ إلى تعميق تحالفاتها مع دول أخرى تعارض الهيمنة الأمريكية، مثل إيران.

في المقابل، يمكن للولايات المتحدة أن تستغل هذه العقوبات كوسيلة ضغط لدفع الأطراف المعنية نحو العودة إلى طاولة المفاوضات. في حالة كوريا الشمالية، قد تُطرح مجدداً فكرة التفاوض على تخفيف العقوبات مقابل تجميد برامجها النووية. أما بالنسبة لروسيا، فإن التقدم في حل النزاع الأوكراني يمكن أن يفتح الباب أمام تخفيف الضغوط الاقتصادية.

العقوبات الأمريكية الجديدة على كوريا الشمالية وروسيا تعكس إدراك واشنطن للتحديات التي تواجه النظام الدولي. التحالف بين موسكو وبيونغ يانغ ليس مجرد تهديد إقليمي، بل هو مؤشر على تحول جذري في العلاقات الدولية.

لكن السؤال الذي يبقى هو: هل ستكون هذه العقوبات كافية لكبح هذا التحالف؟ أم أنها ستدفع روسيا وكوريا الشمالية إلى تعزيز تعاونهما بشكل أكبر؟ الأكيد أن الأشهر المقبلة ستشهد مزيداً من التصعيد، مما يجعل من الضروري مراقبة كيفية تطور هذه الديناميكيات وتأثيرها على الأمن والاستقرار العالميين.

فيديو