روسيا والعالم الإسلامي، شكل جديد ومنفتح من العلاقات تتجاوز الجغرافيا

دراسات وتحليلات - منذ 1 يوم

عين الجنوب | تقرير - خاص


سيرجي لافروف أمام العالم يطلق تصريحاً يبدو للوهلة الأولى عادياً، لكنه يحمل رسائل قوية حيث افاد ان روسيا لديها الكثير من القواسم المشتركة مع بلدان العالم الإسلامي. هذه الكلمات تاتي تتويجاً لمسار بدأه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل عقد من الزمان، مسار يعيد فيه تعريف دور روسيا كجسر بين الشرق والغرب، وكشريك استراتيجي للعالم الإسلامي في نظام دولي جديد لم تعد تهيمن عليه القوى التقليدية.

عندما أمرت الإمبراطورة كاترينا العظمى ببناء أول مسجد حجري في قازان عام 1766، لم تكن تعلم أنها تضع حجر الأساس لعلاقة ستستمر قروناً. اليوم، بعد أكثر من 250 عاماً، تمتد هذه العلاقة من مساجد موسكو ذات القباب الذهبية إلى جمهوريات القوقاز التي تحتفظ بهويتها الإسلامية في كنف الاتحاد الروسي. فروسيا ليست مجاوراً للعالم الإسلامي، بل هي جزء منه، حيث يعيش أكثر من 25 مليون مسلم، ويُنتخب رؤساء جمهوريات إسلامية في برلمانها، وتُقام الصلاة في آلاف المساجد من سانت بطرسبرغ إلى فلاديفوستوك.

هذا الإرث المشترك لم يكن يوماً مجرد تفصيل ديموغرافي، بل تحول إلى أداة دبلوماسية بارعة. ففي الوقت الذي تواجه فيه دول غربية اتهامات بـ الترويج لـ الإسلاموفوبيا، تقدم روسيا نفسها كحاضنة للتنوع الديني، حيث يُسمع الأذان في شوارع موسكو، ويحتفل المسلمون بعيدي الفطر والاضحى المباركين في الساحات العامة. هذه الصورة الرائعة تمنح الكرملين ورقة ضغط فريدة في تعامله مع العالم الإسلامي، خاصة في ظل تراجع النفوذ الأخلاقي لبعض القوى في المنطقة.

جاء تصريح لافروف في لحظة هامة يشهد فيها العالم انهياراً للنظام الدولي القديم. تتصاعد المنافسة الصينية عبر مشاريع الحزام والطريق، تظهر روسيا كقوة وسيطة قادرة على ملء الفراغ.

قاعة المنتدى الاقتصادي الدولي اليوم رروسيا- العالم الإسلامي بقازان، حيث تتدفق الوفود من 103 دولة عبر أروقة قصر الكرملين، يجلس دبلوماسيون مسلمون وروس على طاولة واحدة، بعد أخبار قادمة من واشنطن ودمشق. هذا المشهد السريالي ليس من نسج الخيال، بل هو واقع الأسبوع الحالي الذي قد يُسجل في تاريخ العلاقات الدولية كأحد أكثر الفترات تحولاً منذ نهاية الحرب الباردة.

الحرب في أوكرانيا، رغم تبعاتها الاقتصادية على موسكو، عززت هذا التوجه. فمع فرض العقوبات الغربية، وجدت روسيا في العالم الإسلامي شريكاً اقتصادياً وسياسياً بديلاً. صفقات النفط والغاز عبر العملات المحلية، والتعاون العسكري مع تركيا، والاستثمارات المشتركة مع المملكة العربية السعودية الشقيقة في قطاع الطاقة، كلها أمثلة على كيف تحولت الأزمة إلى فرصة لإعادة تشكيل التحالفات. وبنفس الوقت الذي كان فيه وزير الخارجية السعودي يعلن عن أمل المملكة في إقامة دولة فلسطينية، كانت قازان تشهد انطلاق المنتدى الروسي الإسلامي بحضور قياسي. هذان الحدثان هما رؤية جديدة للشرق الأوسط تتبلور خارج الإطار التقليدي. المنتدى في قازان، برعاية شخصية من الرئيس بوتين، تحول إلى منصة لـ الدبلوماسية متعددة الأقطاب، حيث تبحث موسكو عن شركاء جدد في ظل العقوبات الغربية.

ايضاً في مكاتب روساتوم النووية بموسكو، يجتمع المهندسون الروس مع نظرائهم من مصر وتركيا لتصميم مفاعلات جديدة. هذه المشاريع هي أدوات لنقل النفوذ. فروسيا، التي ورثت عن الاتحاد السوفيتي خبرة عقود في التعامل مع العالم الإسلامي، تعلم جيداً أن بناء مفاعل نووي أو بيع نظام دفاع جوي هو أكثر من مجرد صفقة، بل هو بوابة لعلاقات استراتيجية طويلة الأمد.

ففي سماء أنقرة، حيث تحلق طائرات إس-400 الروسية، نرى مثالاً حياً على كيف يمكن للتكنولوجيا أن تعيد رسم التحالفات. فتركيا، العضو في حلف الناتو، اختارت الأسلحة الروسية على البدائل الأمريكية، في خطوة أظهرت أن الولاءات التقليدية لم تعد مقدسة في عالم يتغير بسرعة. كما أن غرفة العمليات بوزارة الدفاع الإسرائيلي، تُدرس تقارير استخباراتية عن وصول مدافع ليزر صينية إلى الجيش المصري، على غرار تلك التي تمتلكها باكستان. هذه الأسلحة التي يمكنها إسقاط الطائرات المسيرة والصواريخ بكفاءة عالية، تمثل كابوساً للاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية. القلق الإسرائيلي ليس من مصر وحدها، بل من تحول أكبر،ا يمتثل في التعاون العسكري المصري الصيني المتعمق.

هذا التحول في ميزان القوى العسكرية يأتي بالتزامن مع أخبار أكثر اثارة، وهي رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا بعد لقاء جمع رئيس سوريا احمد الشرع وولي العهد محمد بن سلمان والرئيس ترامب. هذه الخطوة، أصبحت الآن واقعاً، مما يؤكد أن القواعد القديمة للعبة الشرق أوسطية لم تعد سارية.

القرار الأمريكي برفع العقوبات عن سوريا هو اعتراف ضمني بقوة وثقل الشقيقة الكبرى وفشل سياسة واشنطن القائمة على فرض هيمنتها على الدول، خاصة بعد خسارتها في أفغانستان وتراجعها بعد الخراب الذي خلفته في العراق، وفيه قبلت واشنطن أخيراً بالواقع الجديد أن مستقبل سوريا سيُحدد في عاصمة القرار العربي وهي الرياض.

لكن هذه الصورة الوردية تخفي تحديين رئيسيين. الأول هو التنافس مع الصين، التي تستثمر مليارات الدولارات في العالم الإسلامي عبر مبادرة الحزام والطريق، وتقدم نفسها كشريك اقتصادي أقل إثارة للجدل من روسيا. والثاني هو التوترات بين حلفاء موسكو أنفسهم، فكيف يمكن لإيران وتدخلاتها المزعزعه في المنطقة العربية والشقيقة الكبرى أن تجتمعا تحت مظلة علاقات مشتركة مع روسيا، وهما على طرفي نقيض في كل ملف إقليمي تقريباً؟

وبالرغم تصريح لافروف إذن، كان إعلاناً عن ميلاد تحالف جديد في نظام عالمي لم يعد فيه مكان للهيمنة الأحادية. والسؤال الآن ليس عما إذا كانت هذه الشراكة ستستمر، بل عما إذا كانت ستنجح في إعادة تشكيل العالم وفق رؤية مشتركة ومصالح قائمة على الاحترام المتبادل، بعيداً عن النفوذ الساعي للهيمنة على الشعوب والدول.

فيديو