تقارير المراكز الدعوية للإسلام السياسي... تعميق الانقسام الطائفي بأذرع إيرانية في الغرب

تقارير - منذ 6 ساعات

عين الجنوب | حفريات


ثمة تماثلات لافتة بين قوى الإسلام السياسي في نسختيها السنّية والشيعية، بخصوص آلياتها ووسائطها في التمدد والتغلغل والتوغل بالمجتمعات الأوروبية، فقد راكمت هذه الجماعات في العقود الأخيرة نفوذها من خلال المراكز الدعوية والدينية، والمدارس والمساجد. ومن خلال شبكات مرتبطة ظاهرياً بالمجتمع المدني تحتمي بخطاب ونشاط خدمي وتنموي، تباشر عملياً في تنفيذ خططها الحركية الاستراتيجية عبر البحث عن حوامل اجتماعية لإيديولوجياتها وأهدافها السياسية داخل الجاليات العربية والمسلمية، ثم تقويض القيم الديمقراطية والليبرالية في الغرب عبر حشد أفكارها وخطابات الكراهية التي تتبنّى العداء للآخر بحمولته الثقافية، واعتباره هدفاً من الضروري تصفيته. 


في حين لم يعد النفوذ الإيراني ومثيلاته التابعة للإخوان، في العالم، يعتمد فقط على القوة الصلبة المتمثلة في شبكات من الميليشيات و"ذئاب منفردة"، برزت القوة الناعمة التي تتسلل على نحو خفي ومستتر، وتعتمد حيلاً مختلفة لكسب الوقت والتملص من المراقبة والتتبع والمساءلة، والتعمية عن أهدافها الاستراتيجية، حيث إنّ إحدى أهم أدوات طهران لاختراق البيئات الجديدة، خصوصاً في الغرب، هي تلك المراكز الثقافية الإيرانية المنتشرة في أوروبا وأمريكا الشمالية، وتُعدّ نموذجاً بارزاً لهذه السياسة التي يتم من خلالها تبييض الأموال وتهريب الأسلحة وتوفير اقتصاديات العنف للجماعات المسلحة الميليشياوية مثل حزب الله في لبنان والحوثي في اليمن، فضلاً عن نشر خطاب راديكالي يتماهى وأفكار "الولي الفقيه"، منها "تصدير الثورة"، وتورطها في أعمال عنف تتصل بالمعارضة الإيرانية بالخارج، وعليه تبدو هذه المراكز، ظاهرياً، مجرد منابر للحوار الثقافي والفكري، بينما تحمل في جوهرها أهدافاً سياسية وإيديولوجية تسعى لتشكيل حوامل اجتماعية مرتبطة بالمشروع الإيراني خارج حدوده الجغرافية.

مبدأ تصدير الثورة

ترتكز السياسة الخارجية الإيرانية منذ الثورة الخمينية عام 1979 على مبدأ "تصدير الثورة"، الأمر الذي تباشر مؤسسات النظام في طهران تقوية حضوره من خلال المؤسسات الثقافية التي تعمل في إطار الذراع الدبلوماسية، وتوفر له الإمكانات المالية والموارد الاقتصادية كافة، حسبما يوضح الباحث المختص في الشؤون الإيرانية الدكتور محمود أبو القاسم، لافتاً لـ (حفريات) إلى أنّ معركتها في الغرب ليست عسكرية أو سياسية بحتة، وإنّما هي كلّ ذلك، إلى جانب محاولة فرض أو تعميم نمطها الديني والثقافي والقيمي ببناء شبكات اجتماعية وثقافية تتغلغل في المجتمعات الغربية، وخاصة بين الجاليات العربية والمسلمة، لتشكيل رأي عام متعاطف مع سياساتها، أو على الأقلّ غير معادٍ لها.

المراكز الثقافية الإيرانية في الغرب تتبع عادة، بشكل مباشر أو غير مباشر، لـ "منظمة الثقافة والعلاقات الإسلامية" في طهران، التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي، وهي جهاز رسمي يعمل تحت إشراف المرشد الأعلى الإيراني. وتمثل هذه المنظمة "الذراع المؤسساتية لسياسة القوة الناعمة الإيرانية، وهي تنسّق مع السفارات والملحقيات الثقافية"، كما يقول أبو القاسم. وهذه المراكز تشمل المراكز الإسلامية والمراكز الثقافية التي ترفع شعارات "التقارب بين المذاهب"، والجمعيات الطلابية المرتبطة بالجامعات أو التي تستقطب الطلبة العرب والمسلمين، يضاف إلى ذلك "دور النشر والإعلام المحلي التي تروّج لفكر الثورة الإسلامية ورموزها".

ويردف أبو القاسم: "تعتمد المراكز الثقافية الإيرانية في الغرب على مجموعة من الآليات، ومنها التعليم واللغة، ويتم تنظيم دورات في اللغة الفارسية، والآداب الإيرانية، بل حتى في "الفكر الإسلامي"، وغالباً ما تكون هذه المناهج محمّلة برؤى إيديولوجية مرتبطة بولاية الفقيه، وإحياء المناسبات الدينية ومنحها الطابع الإيديولوحي والمسيس، مثل التركيز على إحياء عاشوراء ضمن إطار توليد فكرة المظلومية التاريخية التي تُعدّ أحد ارتكازات الإسلام السياسي الشيعي لتوليد العنف والاصطفاف الحركي المعنوي، وذكرى الثورة الإيرانية وترويج شعاراتها الاستقطابية، وهي جميعها وسائل لترسيخ الهوية المذهبية وربطها بالمركزية الإيرانية".

ويشير أبو القاسم إلى الخدمات المختلفة، التعليمية والإنسانية الخدمية، كمساعدات اللاجئين أو دعم أنشطة شبابية ورياضية، في محاولة لبناء صورة إيجابية وجذب الفئات الهشة. ويقول: "من خلال مواقع إلكترونية وقنوات تلفزيونية وغرف دردشة وصفحات عبر مواقع التواصل الاجتماعي ناطقة بالعربية أو باللغات المحلية، يتمّ تمرير رسائل سياسية بلغة ثقافية ودينية مؤدلجة ومسيسة. فتركيز المراكز الثقافية الإيرانية على الجاليات العربية والمسلمة في الغرب، يحقق الشرعية الدينية والسياسية للنظام في طهران، وتسعى الأخيرة لتقديم نفسها كمدافع عن قضايا المسلمين، وخاصة القضية الفلسطينية التي تسجل له ما يُعرف بـ "يوم القدس". كما أنّ بعض أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين يعانون من فقدان الهوية والانتماء، وهو ما يجعلهم عرضة لتأثير الخطاب الإيراني؛ وتستغل إيران وجود مجتمعات شيعية في بعض الدول الغربية كمنصات لتحقيق النفوذ، قبل الانتقال إلى دوائر أوسع".

الغطاء الديني

من خلال دعم مساجد ومراكز دينية تتبنّى فهماً متقاطعاً مع الرؤية الإيرانية للإسلام السياسي، ويتم "إعداد حوامل اجتماعية" وبناء قاعدة اجتماعية ممتدة تستطيع إيران الاعتماد عليها عند الحاجة، سواء في الضغط السياسي أو في مواجهة خصومها، كما حدث بعد حرب غزة واندلاع الصراع بين حماس وإسرائيل في غزة منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وفق الباحث المختص في الشأن الإيراني. وقد برز الدور المشبوه الذي اضطلعت به هذه المراكز في أعقاب هذا الصراع وارتداداته بعواصم أوروبية، الأمر الذي استدعى مواجهة مع الإسلام السياسي وتقويض نشاطها وشلّ نفوذها، من خلال تتبع شبكاتها المالية ومصادر تمويلها، عبر تحقيقات أمنية جرت في ألمانيا وفرنسا حول ارتباط بعض المراكز الثقافية بأنشطة استخباراتية. وقد تم إغلاق مراكز في بعض الدول بدعوى التورط في تجنيد عناصر أو تبييض صورة منظمات مرتبطة بإيران. فضلاً عن تحذيرات إعلامية من استغلال الأنشطة الثقافية لتجنيد الشباب أو نشر خطاب طائفي يقوم على الكراهية بينما يتسبب في تعميق الانقسامات الطائفية داخل الجالية الواحدة عبر الترويج لرؤية مذهبية ضيقة مغلقة.

ووفق ما نقل "المركز العربي لدراسات التطرف" فإنّ أحدث هذه الحالات تتعلق بمنظمة "ذا آرك" في جوفان هيل، غلاسكو، التي تصف نفسها بأنّها تجمّع مسلم مستقل لتعزيز المجتمع الإسكتلندي، لكنّها عملت مرتين كمركز اقتراع رسمي للانتخابات الإيرانية. ويُعدّ "ذا آرك" مقر المجلس الإسلامي الإسكتلندي، الذي يقدّم المشورة للحكومة بشأن الإسلاموفوبيا وجرائم الكراهية، وهو ما يثير القلق من ضعف الرقابة على مثل هذه المراكز. فالتقارير تشير إلى شبكة أوسع تشمل جمعية أهل البيت في إسكتلندا ومركز المهدي الإسلامي، وكلاهما تلقيا تمويلاً حكومياً بأكثر من (770) ألف جنيه إسترليني. وقد استضافت بعض هذه المراكز فعاليات دعم النظام الإيراني الذي سبق أن أصدر أوامر بإعدام آلاف السجناء السياسيين، بما في ذلك الكاتب البريطاني سلمان رشدي.

ورغم وجود أدوات قانونية مثل قانون الأمن الوطني ونظام تسجيل النفوذ الأجنبي (FIRS)، لكنّها لم تُستخدم بشكل فعال ضد نشاط هذه المراكز، مكتفية باعتقال حالات محدودة تتعلق بالتجسس، بينما استمر النفوذ الإيراني عبر الجمعيات الثقافية والدينية دون رادع. ويُحذّر المراقبون من أنّ هذه المراكز تمثل أدوات نفوذ ناعمة، وبؤر ترهيب للمعارضين الإيرانيين في بريطانيا، ممّا يشكل تهديداً للحريات ويمسّ الأمن الوطني. ويطالبون الحكومة باتخاذ إجراءات عاجلة وحازمة لمراقبة هذه المراكز ومنع استغلالها لتوسيع نفوذ النظام الإيراني داخل المملكة المتحدة.

فيديو