تحليل: القطبية الواحدة.. انحياز جائر ومظلوميات دائمة

دراسات وتحليلات - منذ 5 ساعات

عين الجنوب | خاص:

منذ أن سقط الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن الماضي، تغيّر وجه العالم جذريًا. فقد انتهى زمن التوازن بين الشرق والغرب، ودخلت البشرية مرحلة جديدة تحكمها القطبية الواحدة بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي وجدت نفسها القوة العظمى الوحيدة المهيمنة على القرار الدولي سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.

خلال العقود التي سبقت هذا التحول، وتحديدًا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، شهد العالم ازدهار حركات التحرر الوطني، حيث استطاعت عشرات الدول التي كانت ترزح تحت الاستعمار بناء قدراتها السياسية والاقتصادية والعسكرية في زمن قياسي. كان المحور الشرقي، بقيادة الاتحاد السوفيتي، يشكّل حينها حاضنة وداعماً لهذه الحركات بالسياسة والسلاح والاقتصاد، مما أتاح لتلك الدول فرصة النهوض واستعادة سيادتها وبناء مؤسساتها.
ذلك التوازن بين القطبين — الشرقي والغربي — أسّس لعقود من الاستقرار النسبي في العالم، قبل أن ينهار فجأة مع تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991م.

بسقوط المعسكر الشرقي، أصبحت الولايات المتحدة القطب الأوحد في النظام الدولي الجديد، فبدأت مرحلة الهيمنة المطلقة على مقدّرات العالم. تمددت واشنطن عسكريًا وسياسيًا، وتدخلت في شؤون دول كثيرة تحت شعارات "الحرية" و"الديمقراطية"، لكنها في الواقع مارست سياساتٍ وصفت بالانحياز الجائر، وأوقعت ظلماً واسعاً على الشعوب الضعيفة.

ففي العراق مثلاً، قادت الولايات المتحدة حرباً مدمّرة انتهت باحتلال البلاد وإغراقها في الفوضى. وفي الصومال، دخلت تحت غطاء الأمم المتحدة، ثم انسحبت بعد أن أشعلت الصراع بين القبائل، تاركة وراءها بلداً غارقاً في الانقسام والفوضى. ولم يتوقف هذا النمط من السلوك عند حدود العالم العربي، بل امتد إلى القارة الأمريكية نفسها، حيث تشير الوثائق إلى أن واشنطن احتلت ولاية تكساس عام 1845م حين كانت تتبع للمكسيك، بعد أن أغرتها مواردها الغنية فاستولت عليها بالقوة العسكرية.

بهذه السياسات، تحولت القطبية الواحدة إلى نظام قائم على الإملاء والتدخل ،فرضت الولايات المتحدة رؤيتها على كثير من الدول، وأسست مئات القواعد العسكرية حول العالم، بينما سيطرت شركاتها العملاقة على الأسواق الدولية، وأحكمت قبضتها على النظام المالي العالمي. وإلى جانب ذلك، مارست واشنطن الحصار الاقتصادي على دولٍ رافضة لهيمنتها، مثل روسيا وكوريا الشمالية وفنزويلا، كما سيطرت على قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة لخدمة مصالحها.

ولم تقتصر الهيمنة على السياسة والاقتصاد فحسب، بل امتدت إلى الثقافة أيضًا، حيث انتشرت اللغة الإنجليزية والنمط الأمريكي للحياة في كل مكان، ليصبحا رمزين للنفوذ الناعم للقطب الواحد.

لكن هذا الواقع لم يمر دون مقاومة. فمع تفاقم الغطرسة الأمريكية، بدأت تظهر أصوات في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية تطالب بنظام عالمي جديد أكثر عدالة وتوازناً. وتشهد مناطق عديدة من العالم اليوم احتجاجات ومواقف سياسية ترفض هيمنة القطب الواحد، وتدعو إلى عالم متعدد الأقطاب يعيد التوازن ويضمن مصالح الجميع.

وفي هذا السياق، برز المحور الشرقي الجديد الذي تقوده روسيا والصين، ومعهما كوريا الشمالية وباكستان وعدد من الدول الرافضة للسياسات الأمريكية، في محاولة لإحياء توازن دولي أكثر إنصافاً.
هذا التحالف المتنامي يعيد إلى الأذهان ملامح التوازن القديم، لكنه يأتي هذه المرة في عالم أكثر تعقيداً، تتداخل فيه المصالح والتهديدات، وتتحكم فيه التكنولوجيا والاقتصاد بقدر ما تتحكم فيه الجيوش.

وبين واقع القطب الواحد وصعود التعددية الجديدة، يقف العالم اليوم أمام مفترق طرق:
إما استمرار الهيمنة الأمريكية وما يرافقها من مظلوميات وصراعات،أو ولادة نظام عالمي جديد، أكثر عدلاً وتوازناً، يعيد للعالم مبدأ الشراكة لا التبعية، والتوازن لا الانحياز.

فيديو