قراءة تحليلية في الموقف البريطاني من قضية شعب الجنوب

دراسات وتحليلات - منذ 1 يوم

عين الجنوب|| خاص:

يحتل الموقف البريطاني من القضية الجنوبية مساحة واسعة في نقاشات المشهد السياسي الإقليمي، ليس فقط بسبب الإرث التاريخي الذي تركته لندن في الجنوب، ولكن أيضًا بحكم حضورها الدائم في ملف اليمن داخل مجلس الأمن، باعتبارها القلم الممسك بملف اليمن منذ سنوات. ومع ذلك، فإن الموقف البريطاني يبدو في ظاهره ثابتًا، وفي عمقه مرنًا يتكيّف مع تغيّر موازين القوى على الأرض، ويتعامل مع تطلعات الجنوب باعتبارها حقيقة سياسية لا يمكن تجاوزها وإن لم تُترجم بعد إلى موقف معلن وصريح بدعم فك الارتباط بين الدولتين

تدرك بريطانيا أن الجنوب اليوم لم يعد مجرد ورقة سياسية ضمن صراع بين أطراف يمنية متنافسة، بل أصبح منطقة ذات وزن فاعل في الملفات الأمنية والاقتصادية والملاحية، وأن أي معادلة لا تراعي وجوده ودوره محكوم عليها بالفشل. هذا الإدراك لا تدفع لندن لإعلان مواقف صادمة أو قاطعة، لكنها تتعامل مع الجنوب ببراغماتية واضحة؛ فهي تعترف بوجود قوة جنوبية منظمة ومؤثرة، وتشجع على إشراكها في أي مفاوضات قادمة، وتطرح رؤيتها للحل من زاوية أنها تسوية يجب أن تشمل كل الأطراف، وليس فقط الأطراف التقليدية في صنعاء أو مأرب.

ومن خلال متابعة تصريحات السفراء البريطانيين المتعاقبين، يمكن قراءة نهج ثابت يقوم على التشديد بأن “مستقبل الجنوب والشمال يحدده اليمنيون أنفسهم”، وهي العبارة التي تبدو دبلوماسية لكنها في جوهرها تفتح الباب على كل الاحتمالات، بما في ذلك معالجة القضية الجنوبية بشكل مختلف عن مرحلة ما بعد 1990. فبريطانيا لا تريد أن تظهر كقوة دولية تفرض نموذجًا معينًا لشكل الدولة، لكنها في الوقت نفسه ترى أن تجاهل الجنوب أو محاولة تجاوزه لم يعد ممكنًا، لأن الواقع تغيّر والجنوب فرض حضورًا سياسيًا وعسكريًا يصعب تجاهله.

وفي الوقت ذاته، تنظر لندن للجنوب من زاوية الاستقرار الإقليمي؛ فهي تعرف أن عدن وباب المندب وخطوط الملاحة الدولية لا يمكن تأمينها دون شراكة جنوبية حقيقية، كما تدرك أن الأجهزة الأمنية في عدن وحضرموت لعبت دورًا أساسيًا في مكافحة الإرهاب خلال السنوات الماضية، وهو ملف يُعد من أهم أولويات الخارجية البريطانية. هذا ما يجعل موقفها يتسم أحيانًا بالحذر، لكنها في العمق تراهن على القوى الأكثر قدرة على فرض الأمن على الأرض، وفي مقدمتها القوى الجنوبية.

ولا يمكن فصل الموقف البريطاني عن الحسابات الدولية الكبرى؛ فالحضور البريطاني في الخليج والبحر العربي يمنحها اهتمامًا إضافيًا بمسار الجنوب، لأنها ترى أن الاستقرار في هذه المنطقة يمثل جزءًا من استقرار خطوط التجارة العالمية، وأن أي اضطراب فيها ستكون له انعكاسات مباشرة على أوروبا. لذلك تتعامل بريطانيا مع التحولات في الجنوب باعتبارها عنصرًا حاسمًا في مستقبل اليمن والمنطقة، وتسعى لأن تكون طرفًا مؤثرًا في صياغة التسوية القادمة، سواء بقيت اليمن دولة موحدة بصيغة جديدة، أو اتجه نحو ترتيبات مختلفة تأخذ تطلعات الجنوب بعين الاعتبار.

ومع تراكم الأحداث خلال السنوات الأخيرة، بات واضحًا أن لندن تستوعب أن القضية الجنوبية ليست مجرد شعار سياسي، بل قضية شعب يمتلك إرادة واضحة نحو استعادة دولته، وأن هذا المزاج الشعبي، مدعومًا بقوة سياسية وعسكرية على الأرض، يفرض نفسه على المجتمع الدولي. ومع ذلك، تفضّل بريطانيا أن تبقى في المنطقة الرمادية؛ فهي لا تعلن دعمًا صريحًا لحل الدولتين ، لكنها في المقابل لا تتبنى مواقف تعرقل مسار الجنوب، وتتعامل مع الواقع كما هو، بانتظار أن تنضج البيئة السياسية المحيطة بأي تسوية مستقبلية.

وتزداد مرونة الموقف البريطاني كلما اتسعت الفجوة بين الجنوب ومراكز القوى التقليدية في الشمال، وكلما ظهرت إشارات دولية إلى ضرورة إعادة صياغة شكل الدولة اليمنية على أسس جديدة قد تكون فيدرالية أو كونفدرالية أو حتى خيارات أخرى يقررها اليمنيون عبر مفاوضات مباشرة تصل الى فك الارتباط بين عدن وصنعاء . وفي هذا السياق، تظهر بريطانيا كقوة تفضّل أن تمسك العصا من المنتصف، لكنها في الوقت نفسه تتجه بوضوح نحو الاعتراف بأن الجنوب طرف لا يمكن تجاوزه، وأن كل الحلول الواقعية تبدأ من فهم التحولات في عدن وحضرموت والمهرة.

في النهاية، يمكن القول إن موقف بريطانيا من القضية الجنوبية هو موقف محسوب بدقة؛ لا يقطع الطريق على تطلعات الجنوب، ولا يمنحها تفويضًا مطلقًا، لكنه يتطور بصمت مع تطور الواقع. ومع اتساع الحضور الجنوبي سياسيًا وعسكريًا، يبدو أن لندن تتحرك باتجاه الاعتراف التدريجي بأن الجنوب سيكون في صميم أي صيغة نهائية لمستقبل اليمن، وأن تجاهله لم يعد خيارًا مطروحًا لا للدول الإقليمية ولا للمجتمع الدولي.

فيديو