من المعاناة إلى القرار: الجنوب يرسم مستقبله بيده

تقارير - منذ 10 ساعات

عين الجنوب | خاص   

لم تكن انتفاضة الجنوب وليدة لحظة غضب عابرة، ولا نتاج حدثٍ طارئ فرض نفسه على الشارع، بل جاءت كحصيلة طبيعية لتراكم طويل من الوعي والمعاناة والتجارب القاسية التي عاشها الشعب الجنوبي على مدى سنوات. اليوم، يقف الجنوب في لحظة تاريخية فارقة، يرفع صوته عاليًا مطالبًا باستعادة دولته، مستندًا إلى إرادة شعبية صلبة وإيمان راسخ بعدالة قضيته وشرعية مطالبه.

في مدن الجنوب وقراه، من السواحل إلى الجبال، ومن الحواضر إلى الأرياف، تتوحّد الأصوات حول هدف واحد لا لبس فيه: استعادة الدولة وبناء مستقبل يليق بتضحيات الشهداء وصبر الأمهات وآمال الأجيال القادمة. لم يعد هذا الهدف مجرد شعار يُرفع في المناسبات، بل تحول إلى مشروع وطني جامع، تتلاقى عنده مختلف الشرائح الاجتماعية، على اختلاف انتماءاتها وتوجهاتها، في مشهد يعكس نضجًا سياسيًا واجتماعيًا غير مسبوق.

لقد دفع الجنوب أثمانًا باهظة نتيجة الإقصاء والتهميش وغياب الشراكة الحقيقية، وتحمل تبعات صراعات لم يكن طرفًا فيها، لكنه كان الخاسر الأكبر من نتائجها. ومع كل مرحلة، كانت تتعزز القناعة لدى الجنوبيين بأن بقاءهم بلا دولة تحميهم وتدير شؤونهم بعدالة لن يجلب سوى مزيد من الأزمات والانهيارات. من هنا، جاءت الانتفاضة كفعل وعي قبل أن تكون فعل احتجاج، وكقرار مصيري قبل أن تكون حالة غضب.

الانتفاضة الجنوبية اليوم تتسم بوضوح الهدف وسلمية الوسيلة، فهي لا تسعى إلى الفوضى ولا إلى الانتقام، بل تهدف إلى تصحيح مسار تاريخي طويل، وبناء دولة حديثة تقوم على سيادة القانون، والمؤسسات، والعدالة، واحترام التنوع، وضمان الحقوق والحريات. دولة يشعر فيها المواطن بالأمان، ويثق بأن صوته مسموع، وأن مستقبله لا يُدار من خارج إرادته.

كما تعكس هذه الانتفاضة تحوّلًا عميقًا في الوعي الجمعي الجنوبي، حيث لم يعد الخطاب محصورًا في استعادة الماضي بقدر ما أصبح منصبًا على رسم ملامح المستقبل. مستقبل تُبنى فيه الدولة على أسس متينة، بعيدًا عن الشخصنة والارتجال، وقائمًا على التخطيط والعمل المؤسسي والشراكة المجتمعية. وهذا ما يمنح الحراك الجنوبي اليوم قوة إضافية، تجعله أكثر قدرة على الصمود ومواجهة التحديات.

ورغم كل الضغوط السياسية والاقتصادية والإعلامية، يواصل الجنوب انتفاضته بثبات، مدركًا أن طريق استعادة الدولة ليس سهلًا ولا قصيرًا، لكنه الطريق الوحيد نحو الخلاص. تضحيات الأمس حاضرة في الذاكرة، ومعاناة اليوم ماثلة في الواقع، لكن الأمل بالغد يظل هو الوقود الحقيقي الذي يدفع هذا الشعب إلى المضي قدمًا دون تراجع.

إن الجنوب، وهو ينتفض اليوم، لا يفعل ذلك بدافع العاطفة وحدها، بل انطلاقًا من حق مشروع كفلته القوانين والأعراف الدولية، وساندته إرادة شعبية لا يمكن تجاوزها. إنها انتفاضة من أجل الكرامة، ومن أجل الهوية، ومن أجل دولة تكون لكل أبنائها، دولة تحمي ولا تقصي، تبني ولا تهدم، وتفتح أبواب المستقبل على مصراعيها.

وفي خضم هذه اللحظة التاريخية، يبعث الجنوب برسالة واضحة إلى الداخل والخارج مفادها أن إرادة الشعوب لا تُكسر، وأن الحقوق مهما طال الزمن لا تموت، وأن استعادة الدولة لم تعد حلمًا مؤجلًا، بل مسارًا ماضيًا بثبات نحو التحقق، تصنعه إرادة شعب قرر أخيرًا أن يكون سيد قراره وصانع مستقبله.

فيديو