نورا المطيري

معركة التعليم في الجنوب العربي

مقالات - منذ 10 ساعات

يُثير حزب الإصلاح الإخواني الإرهابي اليمني هذا الأسبوع ضجيجًا حول ابتعاث مئة طالب من أبناء الجنوب العربي إلى الجامعات الإماراتية، في منحة دراسية كاملة يشرف عليها المجلس الانتقالي الجنوبي وتدعمها دولة الإمارات.

من وجهة نظري، تمثل هذه الخطوة فتحًا جديدًا في معركة بناء الإنسان الجنوبي، فهي مشروع تعليمي شفاف وواضح يضع الاستثمار في العقول الشابة في مقدمة الأولويات، ورسالة عملية تؤكد أن التعليم هو معركة الوجود التي يخوضها الجنوب العربي في مواجهة سياسات التجهيل الممنهجة منذ حرب 1994.

شاهدنا جميعًا المشهد الرمزي المؤثر في مطار عدن، حين وقف الرئيس عيدروس الزُبيدي مودعًا الطلاب المئة، مؤكداً أنهم سفراء وطنهم في قاعات الجامعات العالمية، وأن عودتهم محمّلة بالعلم والمعرفة ستصبح اللبنة الأولى في نهضة الجنوب. من الواضح أن هناك صراعًا بين مشروعين متناقضين: مشروع يُعيد إنتاج الجهل والفوضى ليتحكم بالناس، ومشروع يضع بناء الإنسان في قلب معركة حماية الجنوب وصناعة مستقبله. ابتعاث هؤلاء الطلاب يمثل إعلانًا سياسيًا واستراتيجيًا أن الجنوب العربي يتجه بخطى ثابتة نحو تأسيس دولته بوعي ومعرفة، وأن الإمارات تضع بين يدي أبنائه مفاتيح الأمل التي تفتح الآفاق.

حين نعود إلى حقائق التاريخ، نجد أن الجنوب العربي – جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية – ارتقى إلى مرتبة متقدمة في مجال التعليم قبل الوحدة اليمنية. وحسب تقارير اليونسكو، بلغت نسبة الأمية في الجنوب عام 1985 حوالي 2% فقط، فيما كانت الحكومة تسعى بشكل متواصل إلى بناء جيل متعلم وواعٍ عبر برامج محو الأمية ومشروعات التعليم الإلزامي. وقد شُيدت مئات المدارس بين 1966 و1981، واحتل التعليم نسبة كبيرة من ميزانية الدولة. الجامعات والمعاهد في عدن والمكلا صنعت نخبًا علمية كانت تقف على قدم المساواة مع أعرق الجامعات الإقليمية.
لكن مع الوحدة عام 1990، أُدمج الجنوب في منظومة تعليمية شابتها فوضى إدارية وإهمال مقصود للتجربة الناجحة السابقة. تقلّصت الميزانيات، واستحوذت قوى حزبية على المدارس والأراضي، وانتشرت ظاهرة المعلم غير المؤهل، واضطر آلاف الطلاب في القرى إلى الدراسة في العراء وتحت الأشجار. ثم جاءت حرب 1994 لتضاعف المأساة، حيث تعطلت المؤسسات التعليمية، وتراجع مستوى التحصيل الأكاديمي، وخرج جيل كامل يفتقر إلى مهارات القراءة والكتابة الأساسية فضلاً عن العلوم واللغات.

في خضم هذا التراجع، تولى حزب الإصلاح الإخواني وزارة التربية والتعليم، فحوّل المدارس إلى مصدر تمويل حزبي، وغيّر المناهج لتغرس أفكارًا متشددة تُغلق العقول بدل أن تفتحها. والذي \"زاد الطين بلة\" كما يقول العرب، قام الحوثيون الارهابيون بدعم المنظومة نفسها بوجه جديد، فمارسوا سياسة الإقصاء وأعادوا إنتاج الجهل بدعم إيراني، فيما كان علي عبدالله صالح يتماهى مع هذه السياسات، مشاركًا في تفكيك مؤسسات التعليم وتشويه رسالتها.

من وجهة نظري، شكّل عام 2017 نقطة تحول بارزة، حين أعلن المجلس الانتقالي الجنوبي مشروعه للإصلاح الشامل في قطاع التعليم، وأعاد هذا الملف إلى قلب الهيكل السياسي الوطني. في تلك المرحلة، برز الدعم الإماراتي باعتباره الأكثر استراتيجية، فقد أعاد الثقة للطلاب والمعلمين عبر بناء المدارس، وترميم المناهج، وتدريب الكوادر، والأهم ابتعاث الطلاب إلى الخارج. من بين هذه المبادرات، كانت منحة المئة طالب إلى جامعات الامارات إشارة واضحة إلى أن بناء الإنسان يأتي أولًا، وأن التعليم في صميم المشروع النهضوي الجنوبي.

الإمارات، كما نعلم جميعًا، لم تكتف ببناء المدارس فقط، بل أطلقت مشاريع تنموية موازية تُعزز البيئة التعليمية. ففي شبوة دشنت محطة للطاقة الشمسية بقدرة 53 ميغاوات، لتغذي المدارس والمستشفيات والمنازل بمصدر مستدام، ولتوفر بيئة مستقرة للعملية التعليمية. وفي عدن وحضرموت وسقطرى والمخا، تركت الإمارات بصماتها عبر مشاريع أعادت الحياة إلى المدارس، وجهزت المعلمين بالأدوات اللازمة، ووفرت للأطفال والشباب فرصًا للتعلم في أجواء أكثر استقرارًا.

من الطبيعي أن نرى في مقابل ذلك محاولات من حزب الإصلاح والحوثيين لعرقلة هذه الإنجازات. لقد اعتادوا مهاجمة كل مبادرة ناجحة بوصفها \"استقطابًا سياسيًا\" أو \"مؤامرة\"، لكن الحقائق على الأرض تثبت أن التعليم في الجنوب يشهد للمرة الأولى منذ عقود مسارًا إصلاحيًا حقيقيًا. الإعلام الموجَّه يحاول تصوير المنح والمبادرات بوصفها مؤقتة أو مشروطة، غير أن الواقع يكشف عن مشروع متكامل، قاعدته الاستثمار في العقول، وهدفه بناء جيل يعي مكانته في العالم، وقادر على حمل رسالة دولته المستقبلية.

حين نتأمل المشهد بعمق، نجد أن التعليم في الجنوب العربي لم يكن يومًا مسألة قطاعية مرتبطة بالمدارس والجامعات وحدها، بل هو مشروع وجود، مرتبط بالهوية الوطنية والكرامة الإنسانية. إنني أرى أن إعادة بناء المنظومة التعليمية اليوم هي قلب مشروع الاستقلال السياسي والفكري. فالمجلس الانتقالي الجنوبي، يضع الأساسات لجيل جديد من العلماء والمهندسين والأطباء والمعلمين الذين سيكونون أعمدة الدولة القادمة.

وبالنسبة لي، الخلاصة أن الطريق واضح. التعليم، إلى جانب الهوية الوطنية وتنمية الأطفال والشباب، يشكل العمود الفقري للدولة القادمة. الجنوب العربي حين يُعيد بناء مدرسته، فهو يضع نفسه على أعلى سُلّم المعرفة، ويصوغ لنفسه مستقبلًا آمنًا ومستقرًا. وحين يعود هؤلاء المئة طالب من الامارات، وغيرهم ممن سيحصلون على مثل هذه الابتعاثات قريبا، سيعودون بأكثر من شهادات جامعية، سيعودون محمّلين بأحلام وطن كامل، وبمشروع استقلال يقوم على العقول لا على البنادق، ولن يتبق لمن حاولوا عرقلة هذه المشاريع الكبرى سوى الخيبة والحسرة والندامة.

فيديو