نورا المطيري

حضرموت وفخّ الانقسامات

مقالات - منذ 4 ساعات

ينشغل معظم الناس بما يحدث في غزة، والشمال السوري، والسويداء، وجنوب لبنان، أو في أوكرانيا، وهذا حقهم بالطبع، لكن \"حضرموت\"، تظل الغائبة الحاضرة.
ويراها البعض مجرد محافظة نفطية، ويراها البعض الآخر مجرد منطقة نزاع قبلي، إنما هي في الحقيقة، واحدة من أهم المدن العربية، وأراها بوضوح أنها أيضا بوابة جنوب الجزيرة إلى بحر العرب، وواحدة من أعقد معادلات الأمن الإقليمي.
وما لا يراه البعض، والذين يظنون أن ما يحدث هناك حاليا يدور حول خلاف محلي على الموارد أو الصلاحيات، أن أطماع الإخوان المسلمين، وكذلك الحوثيين، ومن يسمون أنفسهم بالشماليين، يحاولون طمس الحقيقة وهي أن موقع حضرموت الاستراتيجي التاريخي هي ركن أساسي في دولة الجنوب العربي، لذلك يحاولون الآن تحويلها من درع صلب يحمي الجنوب إلى منطقة نزاع قبلي تشعلها الحروب الداخلية.
التاريخ لا يكرر نفسه حرفيا، لكنه يمنحنا دروسا لمن يقرأ مساراته. ففي آسيا، خرجت سنغافورة من اتحادها القصير مع ماليزيا عام 1965، لتتحول من جزيرة فقيرة بالموارد إلى واحدة من أقوى الاقتصادات العالمية خلال جيل واحد فقط، وفي العام 1993، انفصلت إريتريا عن إثيوبيا بعد ثلاثة عقود من الحرب، لتصبح دولة مستقلة ذات سيادة، حيث نجحت في تثبيت حدودها وإدارة موانئها الاستراتيجية على البحر الأحمر.

وشهدنا جميعا تفكك تشيكوسلوفاكيا عام 1993 إلى دولتين مستقلتين – التشيك وسلوفاكيا – في عملية وُصفت بـ\"الطلاق المخملي\"، حيث تحولت الخلافات الاقتصادية والسياسية إلى نموذج للانفصال السلمي الذي أنتج دولتين مستقرتين.
هذه النماذج تؤكد أن محاولات زعزعة المشروع الوطني الجنوبي، والطعن في الإرادة السياسية الراسخة للمجلس الانتقالي الجنوبي، ومحاولة \"سلخ\" حضرموت عن واقعها الجيوسياسي التاريخي ضمن دولة الجنوب العربي، سوف تكون مآلاتها وخيمة على سكان حضرموت والجنوب وكذلك على اليمن والخليج العربي، حيث يدفع دعاة الفتنة حضرموت لتقف أمام لحظة \"انفصام\" لتصبح مجرد هامش جغرافي للعصابة الحوثية، آملا في استنزاف مواردها النفطية واستخدام موانئها للأغراض الإرهابية التي تهدد المنطقة بأسرها، لكن حضرموت، القلب النابض لمشروع الجنوب العربي، كما عدن بالضبط، سوف ترفض الخضوع وستبقى بهمة أهلها وسكانها واخلاصهم، كيانا مرتبطا بشكل كامل مع دولة الجنوب العربي القادمة قريبا، وستبقى أيضا حجر الزاوية في جميع مشاريع الجنوب العربي المستقبلية.
في الواقع، تمثل حضرموت، بالنسبة لدول الخليج العربي المعنية، ضمانة مزدوجة: أولا، حماية الممرات البحرية الحيوية من أي تهديد حوثي أو إرهابي؛ وثانيا، تأمين قاعدة اقتصادية مستقرة تدعم قيام دولة جنوبية قادرة على الصمود اقتصاديا وسياسيا.

أما في حسابات القوى الدولية، وخاصة الولايات المتحدة وبريطانيا، فإن حضرموت يمكن أن تشكل منصة عمليات بحرية وجوية متقدمة في قلب المحيط الهندي، ومن هنا، فإن أي مسار سياسي يتجاهل مكانة حضرموت في صياغة مستقبل الجنوب العربي، ويحاول زجّها في خضم أطماع الإخوان والحوثيين الإرهابيين، إنما هي محاولة فاشلة لتفريغ هذا العمق العربي الاستراتيجي، لترك فراغ لا يملأه سوى الفوضى أو النفوذ الخارجي المعادي.

أذكر انه حين انهارت المنظومة الأمنية في 2015، استولت القاعدة على المكلا، محوّلة الميناء الحيوي إلى قاعدة تمويل وعمليات. لكن حضرموت استردت أنفاسها سريعا مع تدخل قوات النخبة الحضرمية، والتي حسمت معركة وادي المسيني عام 2018، في مشهد أعاد للأذهان كيف تم حسم معركة عدن في 2015. كان ذلك لنا جميعا درسا بأن الحسم الميداني ممكن، لكن استدامة الاستقرار تحتاج إلى منظومة سياسية موحّدة، لا إلى وحدات صغيرة مناطقية منفصلة تتنازعها الولاءات المشبوهة.
مشروع الجنوب العربي الذي يقدمه المجلس الانتقالي يقوم على توحيد الجنوب تحت قيادة سياسية وأمنية واحدة، فيما يسعى ما يسمى بـ \"حلف قبائل حضرموت\" بقيادة المدعو \"عمرو بن حبريش\" إلى حكم عصاباتي يمنحه اليد العليا في إدارة الثروات النفطية.

لذلك يرى كل عربي شريف أن التمسك بالمجلس الانتقالي الجنوبي هو أولوية قصوى حاليا، فالمجلس هو حامي وحامل مشروع حماية العمق الاستراتيجي العربي، كما نعلم جميعا، مهما اختلفت المصالح والنوايا ومهما اشتعلت صراعات النفوذ ومهما تحوّل التدخل الإقليمي إلى عامل تضخيم للأزمة بدل حلها.

من وجهة نظر سياسية محايدة، فإن الفراغ الناتج عن إخضاع حضرموت لإرادة العصابات والإخوان سوف يُغري الحوثيين للتمدّد شرقا، كما فعلوا حين استغلوا ضعف مأرب لاختراق جبهاتها. ولا شك أن مراجعة التقارير الأمنية في فبراير 2025 حول وجود خلية حوثية نشطة في وادي حضرموت هي إنذار خطر ومؤشر على أن دعاة الفتنة ما زالوا يحاولون فتح الطريق أمام مشروع إيران الإقليمي الذي سقط في سوريا وبدأ يتهاوى في لبنان والعراق.
ولاشك أن هناك اتصالات مع تنظيمات مثل القاعدة وداعش للانقضاض في لحظات التأزم والفوضى، فما نلاحظه اليوم أن تيار الإخوان يستخدم أدواته داخل المنطقة العسكرية الأولى لتوسيع نفوذه السياسي والأمني، في سيناريو يُعيد إلى الأذهان ما حدث في أفغانستان حين تقاسم أمراء الحرب والمليشيات مساحات النفوذ قبل عودة طالبان.
من منظور الأمن القومي الخليجي، حضرموت هي ركن وجزء أساسي من دولة الجنوب العربي على حدود العام 1990، أي ما قبل الوحدة الفاشلة مع اليمن، ولأن حضرموت تتحكم في شريط ساحلي على بحر العرب وتُشرف على خط الإمداد البحري بين مضيق هرمز وباب المندب. فإن انزلاق حضرموت إلى الفوضى يضع أمن الملاحة النفطية في مهبّ الريح. وأن انهيار حضرموت يعني بلا شك إعادة عقارب الساعة إلى مرحلة المكلا تحت القاعدة. وأن فقدان السيطرة هناك سوف يمنح إيران بلا شك منفذا بريا نحو المحيط الهندي.
وجهة نظري أن إنقاذ حضرموت يبدأ بتبني رؤية ثلاثية المحاور، أولها إعادة دمج القرار الأمني تحت السلطة الجنوبية الموحدة المتماسكة، والذي سيضع حدا لازدواجية المليشيات والقوات الموازية، كذلك لابد من محاولة إرساء عقد سياسي داخلي بين المجلس الانتقالي وحلف قبائل حضرموت، يضمن التمثيل السياسي، تحت مظلة المجلس الانتقالي حاليا، ودولة الجنوب العربي في المستقبل، قبل أي تصعيد عسكري غير مضمون النتائج، ولابد أيضا من مبادرة وساطة خليجية جريئة تضع مصالح الأمن الإقليمي الخليجي والعربي فوق اعتبارات النفوذ المحلي.
حضرموت ستصمد، ولن تتحول إلى بوابة انهيار تمزق أهلها وسكانها وتدخلهم في دوامة الانقسامات. ففي هذه اللحظات الصعبة والحاسمة التي يتم خلالها بناء الدولة الجنوبية، وعودة هويتها التاريخية ومقعدها في الأمم المتحدة، ستحتاج كل محافظات الجنوب أن تتماسك تحت مظلة رؤية واحدة يضعها المجلس الانتقالي الجنوبي، وعلى دعاة الفتنة أن يبتعدوا ويتراجعوا، فحضرموت، بتاريخها وموقعها، ستكون كما أراها، أول من يحتفل بنجاح المساعي الدولية الحثيثة لدخول الجنوب العربي بوابة الاعتراف الدولي.

فيديو