تحليل | وهم الحسم ووهم التفاوض: اليمن يدفع ثمن استراتيجيات فاشلة."

دراسات وتحليلات - منذ 8 أيام

الجنوب يفرض واقعاً جديداً: هل آن أوان إعادة تعريف الحل في اليمن؟



عين الجنوب |  خاص


تشهد الساحة السياسية في اليمن اليوم تغيرات جذرية وحقائق مُرة بات من الواضح أن الخيار العسكري لإسقاط الحوثي أمر يعزز من طول الأزمة فقط، مما يفرض علينا إعادة تقييم مسار استعادة الدولة ومفهومها الحقيقي. ففي ظل فشل مجلسها الرياسي والمكونات اليمنية في تحقيق نصر عسكري على الحوثيين، بات أي سعي لإعادة الدولة عبر التفاوض مجرد ستار يخفي استسلاماً متنكراً، يُستخدم للتغافل عن الواقع الذي بات فيه الحوثي سلطة الأمر الواقع في الشمال في ظل تخادم وتخاذل واضح من الأطراف اليمنية ممثل بـ الجيش الوطني. وفي هذا السياق، يظهر واقع جنوبي جديد يتجه نحو مسار تفاوضي قائم على فرض واقع سياسي وأمني مختلف عن تلك الرؤى التي كانت تُعلن سابقاً عن استعادة الدولة الشاملة.

لقد برهنت التجارب المتراكمة على مدى السنوات الماضية أن العملية العسكرية لاستعادة الدولة كانت تواجه عقبات ذات طابع سياسي يخدم الأطراف الشمالية؛ فالحوثيين تمكنوا من ترسيخ سيطرتهم على مساحات واسعة من الأراضي الشمالية، مدعومين بتكتلات عسكرية وإدارية منها في مجلس القيادة نفسه مما ضمن لهم بقاء النظام حتى وإن لم يكن شرعياً بالمعنى الكامل. وفي ظل هذه المعطيات، أصبح من الواضح أن إعادة الدولة بشعارات مثل التفاوض او الحسم ليس سوى وسيلة لإضفاء طابع شرعي على استسلام في ميدان السياسة، وهو تنازل يفتقر إلى الجرأة والإرادة القتالية اللازمة لمواجهة تحديات واقع متغير.

إن مفهوم (إنهاء الحوثي) الذي يتم الترويج له في الخطاب السياسي الحالي لا يتعدى كونه دوامة مفرغة تتردد شعاراتها على لسان الجهات السياسية التي تسعى للالتفاف على مطالب شعب الجنوب، متجاهلة بذلك حقيقة أن أبناء الجنوب هم من يديرون واقعاً سياسياً وإدارياً متماسكاً على أرضهم. فالواقع اليوم يشير إلى أن السلطات الرئيسية في اليمن هما الحوثيون والإخوان وبشكل نسبي المؤتمر في الشمال؛ والمجلس الإنتقالي وبعض المكونات السياسية الآخرى في الجنوب والذي تمكن فيه المجلس بشكل خاص من بناء أنظمة أمنية وإدارية فعالة، مما يجعل فكرة الدولة الموحدة التي كانت يتغنى بها الطرف في الشمال مجرد شعار لإطالة الأزمة دون رؤية واضحة للتطبيق العملي.

إن الانزلاق نحو مسار تفاوضي معتمد على فرض واقع جنوبي يحمل في طياته انعكاسات عدة؛ فهو لا يعني بالضرورة تخلياً عن مبدأ الآمن والإستقرار، بل يُشير إلى ضرورة إعادة ترتيب الأولويات وتحديد من هم اللاعبون الأساسيون في المشهد السياسي الحالي. فقد بات من الواضح أن الحوثي، بفضل تخاذل داخلي وقدراته العسكرية والسياسية التي مكنته من البقاء في مواقع السلطة في الشمال، سيظل يشكل عنصراً تتخادم معه بقية الأطراف في الشمال، مما يستوجب على جميع الأطراف مراجعة مفاهيمها واستراتيجياتها بما يتلاءم مع الواقع الميداني.

من الناحية الاستراتيجية، يُعد التوجه نحو مسار تفاوضي يُعطي الأولوية للواقع الجنوبي خطوة عقلانية تسعى إلى خلق مناخ يُمكن فيه تحقيق استقرار حقيقي وتنمية فاعلة على أرض الواقع، مع الاعتراف بأن حل الأزمة الشاملة يتطلب من جميع الأطراف ذات العلاقة البدء في تحمل مسؤولياتها المناطة بها في الشمال. ومع ذلك هذا التوجه قد يفسر من قبل بعض الأطراف في الشمال أنه تنازل عن المطالب الوطنية لاستعادة الدولة بملامحها التاريخية والتي فشلا في إستعادتها، في حين أنه في الوقت نفسه يهدف إلى تفادي الصراعات المسلحة التي أدت إلى دمار واسع وأزمات إنسانية خانقة منذ عقد كامل.

على الصعيد السياسي، يثير هذا الواقع تساؤلات عدة حول شرعية القرارات المتخذة، إذ إن التفاوض على أسس قديمة دون معالجة جذور الأزمة يجعل من الحل السياسي مجرد وسيلة للتظاهر بالتغيير دون تحقيق نتائج ملموسة. ويبرز هنا التناقض بين الخطاب الرسمي الذي يدعو لاستعادة الدولة الموحدة وبين الواقع الميداني الذي يُظهر انقساماً إدارياً وأمنياً واضحاً بين الشمال والجنوب. وفي هذا السياق، نجزم إن إعادة الدولة من خلال التفاوض او شعار الحسم تستخدم كوسيلة للتغاضي عن مطالب الجنوب الحقيقية وإخفاء الواقع الداخلي الذي بات يؤثر بشكل مباشر على شكل المنطقة والتي يفترض أن تكون خاصة في ظل جهود مواجهة الإرهاب ومكافحته التي التزم بها الجنوب حد اللحظة والذي بدوره يتوافق بشكل رئيسي مع إهتمامات الأطراف الدولية الفاعلة.

أما من الجانب الأمني، نعم يعد استمرار الحوثي في الشمال وتثبيت سلطته في ظل تواطؤ إخواني يخلق حالة من الجمود تشكل خطراً على استقرار الجنوب والمنطقة بأسرها، حيث الحفاظ على الوضع الحالي يجعل من مواجهة التحديات الأمنية خاصة التهديدات الإرهابية العابرة للحدود أمراً أكثر تعقيداً. وفي ظل غياب الخيار العسكري الحقيقي الذي كان من الممكن أن يُحدث تغييراً في موازين القوى، يبقى دعم إستقرار الجنوب هو السبيل الوحيد للمضي قدماً، وإن كان على حساب تركيبة الدولة الموحدة التي طالما حاولت الأطراف الأخرى التغني بها طيلة 10 سنوات ولكن دون جدوى.

من جهة أخرى، فإن اللجوء إلى التفاوض دون معالجة القضية الجنوبية بصورة جذرية قد يؤدي إلى خلق فجوة سياسية وإدارية أوسع، مما يؤثر على حياة الشعبين. فالشعب الجنوبي الذي أثبت قدرته على إدارة شؤونه العسكرية والأمنية بكفاءة وإصرار، قد يشعر بالتهميش إذا ما استمرت الجهود السياسية في إعادة رسم معالم الدولة من منظور تهميشي يستهدف تقليل دوره الفعلي في العملية السياسية. وهذا بدوره يهدد الاستقرار في الجنوب ويؤدي إلى صراعات داخلية قد يكون له تبعات كارثية على مستقبل المنطقة بأسرها.

وفي ضوء ما تقدم، يتعين على المجتمع الدولي والأطراف الإقليمية المعنية أن يدركوا أن الطريق إلى حل الأزمة اليمنية لا يمر فقط عبر مفاوضات سطحية أو شعارات غير جدية، بل يتطلب إعادة هيكلة شاملة تأخذ في الاعتبار الواقع الميداني الحالي. وهذا يعني أنه يجب أن يمنح شعب الجنوب الفرصة الكاملة للمشاركة في صياغة الحل السياسي سواء عبر تقرير المصير من خلال جراء إستفتاء شفاف الآن قبل كل شيء، أو أن يعترف بدورهم الأساسي في تحقيق الاستقرار ومكافحة الإرهاب، بعيداً عن أي محاولات لفرض نموذج دولة موحدة لا يعكس إلا رغبة ضئيلة في التفاوض دون تحقيق مطالب الشعب الجنوبي.

لذا يعد التوجه التفاوضي الحالي وشعارات الحسم الذي يرتكز على استعادة الدولة ولا يأخذ في الاعتبار التجاذبات الحقيقية بين الشمال والجنوب خطوة غير عملية لحل الأزمة اليمنية. بل إنه يمثل تنازلاً يتستر عليه خطاب الوحدة الوطنية، بينما تُستغل هذه الخطوة للالتفاف على مطالب الشعب الجنوبي وتأجيل مسار الحل الحقيقي عبر تغيير تركيبته وحرف مسيرته. وفي هذا الصدد، يبقى من الضروري وضع رؤية سياسية جديدة تأخذ بعين الاعتبار الواقع المتعدد الأبعاد للمنطقة وتضع أسساً حقيقية لاستقرارها بما يخدم مصالح الشعبين ويسهم في بناء حل مستدام قادر على مواجهة التحديات الأمنية والسياسية والاقتصادية التي تعصف بها منذ 3 عقود.

فيديو