الجنوب تاريخ وهوية

تقارير - منذ 10 أيام

اللغة السقطرية تاريخ لإرث جنوبي فريد

عين الجنوب | تقرير - خاص


في بحر العرب، نجد جزر سقطرى، حيث تعيش لغة جنوبية فريدة من نوعها، صامدة منذ الزمن القديم أمام التغيرات السياسية والثقافية. اللغة السقطرية، أو كما يسميها أهلنا في سقطرى (المكايع)، هي هوية متجذرة في ارض الجنوب، تحكي تاريخ مجتمع جنوبي لم تكسره العواصف ولم تذوبه التأثيرات اليمنية والخارجية، رغم قرون من العزلة والانفتاح في آن واحد. يتحدث بها سكان جزيرة سقطرى وجزرها الصغيرة التابعة لها، وهي لغة سامية جنوبية تعود جذورها إلى التاريخ القديم، تصنف ضمن اللغات الأوسط سامية. ورغم تأثرها بالعربية الفصحى واللغات الإقليمية نتيجة التواصل المستمر، إلا أنها بقيت متفردة، تحمل في مفرداتها وأساليبها اللغوية بصمة تاريخ الجزيرة. وعلى الرغم أن العربية أصبحت لغة التعليم والتعامل الرسمي، إلا أن اللغة السقطرية بقيت لغة البيت، السوق، الموروث الشعبي، والأهازيج القديمة، كلغة تحمل داخلها ملامح الطبيعة السقطرية بكل ما فيها من جمال وغموض، لغة تشبه تضاريس الجزيرة نفسها، بين جبال حجهر العالية وكهوفها العميقة وسهولها الممتدة.

اللغة السقطرية هي امتداد للحضارات القديمة التي ازدهرت في الجنوب العربي، منذ الممالك الجنوبية القديمة التي امتدت سلطتها حتى المحيط الهندي. هذه الحضارات حملت لغات سامية جنوبية، وظلت السقطرية شاهدة حية على تلك الحقبة من تاريخ الجنوب العربي الفريد والمتنوع..

مع مرور الزمن، بدأت اللغات السامية الجنوبية الأخرى بالاندثار التدريجي، إما بفعل التأثير الخارجي أو بسبب الانصهار الثقافي، إلا أن السقطرية نجت من ذلك، وظلت لغة منطوقة حية، رغم أنها لم تعرف الكتابة حتى اليوم، وهو ما يجعلها كنزاً لغوياً منطوقاً يعتمد على النقل من جيل إلى جيل. وبالرغم أن السقطرية حافظت على نفسها، إلا أن التفاعل بينها وبين العربية ظل مستمراً. فالكثير من المفردات السقطرية تبدو مألوفة للأذن العربية، لكنها في جوهرها تختلف في النطق والدلالة. ونجد كلمات مثل حار للإشارة إلى الماء، و هُوب تعني نعم، و إرهب تعني اجلس، وهي مفردات قد لا تكون واضحة للناطق بالعربية، لكنها تستخدم يومياً في سقطرى.

لكن الأمر لا يقتصر على المفردات فقط، بل يمتد إلى التراكيب اللغوية، حيث تظل السقطرية قريبة من البنية اللغوية القديمة للغات العربية الجنوبية، ما يمنحها طابعاً مختلفاً عن العربية الفصحى او اللهجات الدارجة في الجزيرة العربية. فمنذ القدم، ظلت سقطرى جزءاً أصيلاً من الجنوب العربي، جغرافياً وثقافياً ولغوياً. وإذا كانت اللغة هي أحد أقوى معالم الهوية، فإن السقطرية تجسد ارتباط سقطرى بالجنوب، بعيداً عن التأثيرات اليمنية الحديثة التي حاولت ربطها بالشمال. فخلال العقود الأخيرة، ومع تصاعد المطالب الجنوبية المطالبة بإستعادة الدولة الجنوبية، أصبحت اللغة السقطرية برهان آخر للخصوصية الجنوبية، حيث تمثل الجزيرة نموذج لمجتمع جنوبي محافظ على تراثه، واستقلاله الثقافي.

وفي ظل محاولات طمس الهوية الجنوبية خلال الثلاثة العقود الماضية، لم تسلم اللغة السقطرية من محاولات التهميش اللغوي، مما جعل بعض الأجيال الجديدة أكثر ميلاً لإستخدام العربية الفصحى عبر ما يسمى بعملية الصهر اليمني القسري، وهو ما هدد باندثار اللغة على المدى الطويل. لكن في الوقت الحالي، هناك محاولات مكثفة للحفاظ عليها، سواء عبر توثيقها من قبل الباحثين، وإبرازها إعلامياً والإحتفال بها .. كإرث جنوبي. كما أن الحفاظ عليها اليوم مسؤولية جماعية، على كل الجنوبيين الذين يدركون قيمة إرثهم الثقافي واللغوي. فهي شاهد على حضارة جنوبية ضاربة في عمق التاريخ، تستحق أن تبقى، لا أن تندثر تحت وطأة الغزو اليمني أو سياساته التهميشية للإرث الجنوبي.

فيديو