التحولات في الوعي لدى الشعوب وبوادر مرحلة جديدة من الاستقرار، (مرحلة ما بعد الاخوان)

السياسة - منذ 6 ساعات

عين الجنوب | تقرير - خاص


منذ نشأة جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، كانت مشروع أيديولوجي شامل يهدف إلى السيطرة على المجتمعات والدول عبر مزيج مركب من الدين، والسياسة، والتنظيم الخفي. مرجعيتهم تسعى لإعادة إنتاج مفهوم «الخلافة» بصيغ تتماهى مع الطوباوية الإسلامية وتتناقض مع أسس الدول الحديثة.


لقد اعتمد الإخوان منذ البداية استراتيجية "التنظير العقائدي" لبناء خطاب يبدو جذاباً للبسطاء وعاطفياً للشعوب لكنه يحمل في داخله بذور الانقسام والتكفير وتغليب الجماعة على الوطن. من كتابات حسن البنا وسيد قطب تبلورت أسس خطاب يكفر الآخر، ويبرر العنف، ويعيد تفسير النصوص الدينية بما يخدم مشروع التمكين السياسي. هنا لم يكن الدين هدف وإنما أداة. وتمت إعادة قولبة المفاهيم الإسلامية الكبرى - كالحكم والشورى والولاء والبراء - في إطار خدمة التنظيم، لا خدمة الإنسان ولا حتى الاسلام نفسه.

ومع توسع انتشار الجماعة، ظهرت استراتيجية "التكيّف الناعم"، حيث قدمت بعض فصائل الإخوان نفسها كحركة معتدلة، قادرة على العمل ضمن الدولة. لكن هذا الوجه الشعاراتي سرعان ما ينقلب، كما ظهر في تجربة مصر واليمن بعد 2011، حيث تحوّلت الجماعة من خطاب المصالحة إلى خطابات التحشيد والهيمنة والتفجير والإغتيالات.

إن خطورة مشروع الإخوان لا تكمن فقط في أفكاره، بل في قدرته على إدارة التناقضات، وتعدد الوجوه، والتكيف مع كل بيئة بحسب خصوصيتها. ففي أوروبا مثلاً، يتم تقديم الإخوان كحركة ثقافية دينية منفتحة، بينما في الشرق الأوسط يتم تبني خطاب "المظلومية" و"الجهاد" والمواجهة مع الأنظمة التي تسميها (الطاغوت). وفي مناطق، مثل ليبيا، لعبت الجماعة أدواراً خطيرة في دعم الفصائل المسلحة وتأجيج الصراعات، وفي السودان تغلغلت في أجهزة الدولة، بينما في تونس استغلت الديمقراطية للتغلغل في المؤسسات.

وفي هذا السياق ظهرت استراتيجية "إدارة الفوضى"، حيث استغلت الجماعة هشاشة بعض المجتمعات أو جهلها، وسعت لإفشال محاولات الاستقرار أو بناء الدولة، ليتسنى لها إعادة صياغة النظام السياسي بما يخدم أيديولوجية التنظيم (أخونه المجتمعات). لقد مارست الجماعة دور تخريبي قبل وبعد الربيع العربي، ففشلت في الحكم بعد أن رفضتها الشعوب نتيجة نهجها في أخونه الامم، لكنها نجحت في إشعال النزاعات، وتحويل الشعوب إلى ساحة صراع بين قوى دينية وعسكرية، مُولت فيها التنظيمات الإرهابية، وشبكات تهريب المخدرات، ومنصات اعلامية تبث خطاب الفتنه والتحريض المغرض.

إن الفكر الإخواني يحمل في جوهره بذور التطرف. فالعقيدة القطبية التي ترسخت في صفوف الإخوان تدعو إلى الانقسام المجتمعي، والولاء للفكر الإخواني، والتمييز بين المسلمين وغيرهم على أسس سياسية، وليست دينية فقط. هذه المكونات النظرية أنتجت تنظيمات عنيفة مثل القاعدة وداعش، التي خرجت من عباءة الفكر الإخواني سواء من حيث المضمون العقائدي أو من حيث الكوادر المؤسسة.

الإعلام كان ركيزة مركزية في استراتيجية الجماعة. فمن خلال منصات هائلة العدد وشبكات التواصل الاجتماعي، أنتج الإخوان خطاب مزدوج، ظاهر معتدل، وباطن محرض. تم تشويه كل من لم يتبنى الفكر الإخواني، مما خلق بيئات استقطاب اتسمت بالتوتر الشديد، وتحولت القضايا مثل قضية فلسطين إلى أدوات سياسية. الإعلام لدى الجماعة لا يسعى إلى الحقيقة، بل إلى التعبئة وتوجيه الرأي العام بما يخدم التمكين، في الحقيقة يمكن تشبيه المشروع الإخواني بمشروع ولاية الفقية عند الشيعة.

في المقابل الاستغلال القيمي للعولمة، فقد منح الإخوان أدوات للانتشار بعيداً عن الرقابة، حيث أنشؤوا منظمات حقوقية، ومؤسسات تعليمية ومراكز، وشبكات دعم في أوروبا وأفريقيا، خدمت مشروع التمدد الناعم للجماعة، مستفيدين من القيم الغربية حول حرية التعبير والتنظيم.

لكن التناقض بين الخطاب والسلوك كان أحد أبرز سمات الإخوان. فعلى الرغم من ادعائهم الديمقراطية، فإنهم مارسوا الترهيب، والابتزاز واعتبروا المخالفين جهلة إن لم يكونوا كفاراً استناداً الى المرجعية القطبية. وعلى الرغم من رفعهم شعارات براقة، فإنهم لم يترددوا في دعم جماعات عنف وإرهاب تقريباً في كل دول الشرق الأوسط وشمال افريقيا، بل حتى في أوروبا ودول القوقاز. لقد تحالفت الجماعة مع القاعدة، وداعش، وحماس، بل وشكلت روابط سرية لدعم هذه الجماعات لوجستياً وإعلامياً وتمويلياً، ناهيك عن اتباع نهج الغاية تبرر الوسيلة، وهذا يشمل التحالف مع نقضاء كالنظام الإيراني السلطوي.

لكن ما يمكن تأكيده هو أن العالم يشهد تحولات عالمية فـ اليوم تشير ملامح أن الشعوب بدأت تدرك زيف هذا المشروع الإخواني. فمع التجربة الإخوانية التي عززت التوتر، الصراعات، وتورطهم في العنف، الإرهاب، بدأت مرحلة الرفض الشعبي لهم. وهذا يشبه ما حصل في أوراسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث تفكك الإتحاد أمام حاجة الشعوب للتنمية والاستقرار، فالتنظير الإخواني بواجتهه الدينية والتنظير اللليني بواجهته الإجتماعية، والتنظير الرأسمالي بواجتهه الإستنزافية تقوم على أساس غير متوازن، تكون فيها المعادلة بين مستفيد وضحية مما يؤدي حتمياً في مرحلة ما الى السقوط، سواء عبر انهيار داخلي، او تحول، او تفكك او صعود آخرين وتوفر بدائل.

الصين نموذج رائع لهذا التحول: فبينما حافظت على نظام سياسي مركزي، لكنها تخلت عن الإيديولوجيا الجامدة، وركزت على بناء اقتصاد قوي وشبكات علاقات عالمية. هذا ما لم تستطع الجماعات المؤدلجة أن تفعله، لأنها لا تؤمن إلا بالتسلط والهيمنة والإستغلال.

ومع تسارع التحول العالمي نحو نظم تعاونية، وتنموية، ومفتوحة، أصبح من الواضح أن الجماعات الأيديولوجية مثل الإخوان وما شابهها من أدوات أيران تشكل عبئاً على الاستقرار. لم تعد الشعوب مستعدًه لمنح أمرها لمن يسعى الى هدر كرامتها وإستغلال عقولها في نظريات تقوم على الاستبداد ومنافية للمنطق والواقع ظاهرية او مبطنة واثبتت فشلها في العالم.

لقد دخل الإخوان مرحلة التآكل الذاتي: فقياداتهم منقسمة، وقواعدهم محبطة، ونفوذهم في انحدار. ومع تزايد وعي الشعوب، وتراكم الخبرات التاريخية، فإن نهاية المشروع الإخواني تعد مسار حتمي يتسارع بفعل منطق التاريخ، وحركة الواقع، واحتياجات الشعوب، مالم يكن هناك تغذية لها من أطراف خفية لطالما استثمرت في الحروب (السياسين النازيين الجدد).

ومع ذلك يُطرح هنا السؤال الكبير: هل يمكن للعالم أن يبني استقراره على قواعد تنمية وتعاون، تحكمها المؤسسات لا الإيديولوجيات؟ الإجابة تتبلور تدريجياً. فالشعوب التي نهضت بعد حروب وصراعات في أوروبا والعالم الذي نهض بعد الحرب العالمية الثانية لم ينهض بالقوى المؤدلجة، بل بالاقتصاد والتعليم والتكامل المؤسسي، أنشئت فيه منظمات التعاون الإقتصادي، ومؤسسات دولية تتجه نحو التعددية، تحترم فيه إرادات الشعوب، وتستثمر العقول في التنمية والتعاون، وتبنى فيه الحضارات على أسس من الأتزان والإستقرار الداخلي والدبلوماسي الخارجي، والنموذج الصيني والخليجي والأوروبي بحضارته وهويته، وتنوعه أمثلة جيدة للدراسة لهذا التوزان عبر التاريخ.

فيديو