السياسات الحمائية في الغرب وانزياح مراكز النمو: التداعيات والتحولات العالمية

دراسات وتحليلات - منذ 1 يوم

عين الجنوب | تحليل


في مشهد اقتصادي عالمي يزداد تقطّعاً، تبرز السياسات الحمائية مثلتها الرسوم الجمركية الاوروبية والامريكية على دول مثل الصين والبرازيل والمكسيك والهند كعامل رئيسي في إعادة تشكيل خريطة التجارة والاستثمار الدولية. ما بدأ كرد فعل على النمو الصيني والاقتصادات الناشئة تحول إلى زلزال اقتصادي متعدد الطبقات، تتداخل فيه الاستراتيجيات الوطنية مع تحولات جيوسياسية عميقة، بينما تكافح الاقتصادات الناشئة للاستفادة من هذه التحولات رغم بطء حركة تجمعات مثل بريكس.

في يوليو 2024، أقدمت المفوضية الأوروبية على فرض رسوم جمركية بنسبة 38.1% على السيارات الكهربائية الصينية، بحجة الدعم الحكومي غير العادل. لكن هذه الخطوة - التي جاءت بعد أشهر فقط من إعلان الولايات المتحدة عن حزمة تعريفات شاملة بلغ متوسطها 15% - كشفت عن مفارقة عميقة. فبينما هبطت مؤشرات الأسهم الأوروبية الصناعية مثل DAX الألماني وFTSE MIB الإيطالي بنسبة 7-9% خلال الربع الثالث من 2024، ارتفعت أسعار السيارات الكهربائية في السوق الأوروبية بنسبة 12%، مما أضر بجهود التحول الأخضر (Bloomberg, ECB Reports 2024-2025).

اللافت أن استراتيجيات التكيف الأوروبية ظلت ردود فعل أكثر منها سياسات استباقية. فبدلاً من إعادة هيكلة سلاسل التوريد، لجأت الشركات الكبرى مثل فولكسفاجن إلى تخزين مكونات صينية مسبقاً، بينما عانت المصانع الألمانية من انخفاض في الطلب بنسبة 5.3% بسبب ارتفاع التكاليف (IFO Institute, Q1 2025). حتى النمو الاقتصادي الأوروبي البالغ 0.7% في النصف الأول من 2025 كان محولاً، إذ قادته قطاعات الخدمات بينما تراجع الإنتاج الصناعي في فرنسا وألمانيا إلى مستويات الركود (IMF Regional Outlook, June 2025).

تصاعدت التكاليف الخفية للحمائية الأمريكية بشكل مذهل. وفقاً لتحليل Pictet Asset Management، خسر الاقتصاد الأمريكي ما يعادل 1.8 نقطة مئوية من النمو المحتمل، بينما قفز التضخم 2.6 نقطة. والأكثر إثارة للقلق أن المستهلكين الأمريكيين تحملوا عبئًا إضافيًا قدره 600 مليار دولار عبر أسعار أعلى (White House Economic Report, July 2025). في وول ستريت، تبخرت تريليونات الدولارات خلال أيام، حيث قفز مؤشر VIX للخوف إلى 45، وهو أعلى مستوى منذ جائحة كوفيد-19.

أظهر الاقتصاد الصيني مرونة لافتة رغم الضغوط. فبينما انخفضت الصادرات إلى أمريكا بنسبة 34.5% في مايو 2025، قفزت المبيعات إلى أفريقيا وآسيا الوسطى وأمريكا اللاتينية بنسبة 18% (China Customs, Q2 2025). سياسة بكين في إعادة التوجيه التجاري نجحت جزئياً، مدعومة بتحفيزات محلية شملت تخفيض أسعار الفائدة وإعفاءات ضريبية. لكن الأسواق المالية ظلت متخوفة، حيث تراجع مؤشر شنغهاي المركب 3% قبل تدخل الحكومة (PBOC Bulletin, June 2025).

برزت الهند كأكبر مستفيد من تحول "الصين+1"، حيث جذبت استثمارات صناعية جديدة في السيارات الكهربائية والإلكترونيات، مع نمو تدفقات رأس المال الأجنبي بنسبة 15% (RBI Report, H1 2025). البرازيل أيضاً عززت شراكاتها الزراعية مع الصين وروسيا، مسجلة نمواً في الصادرات بنسبة 3.2%. لكن دولاً مثل فيتنام وتايلاند عانت من تباطؤ الطلب العالمي، حيث تراجع نمو تجارتها الخارجية من 2.9% إلى 1.1% (BNP Paribas Estimates).

في خضم هذه العاصفة، ظهرت مجموعة بريكس (التي تضم الآن مصر وإثيوبيا والإمارات وإيران) ككيان يحمل طموحات كبيرة لكنه يعاني من قيود هيكلية. فبينما تمثل المجموعة 46% من الناتج المحلي العالمي و55% من سكان الأرض، تظل مؤسساتها - مثل بنك التنمية الجديد - محدودة التأثير مقارنة ببريتون وودز. محاولات إيجاد بدائل للدولار عبر تسويات العملات المحلية حققت نجاحات جزئية، لكنها تفتقر إلى البنية التحتية المالية الموحدة (BRICS Joint Study, 2025)، بجانب غياب استراتيجية استباقية واضحة للتعامل مع صعود الاقتصاد الرقمي .. والتداولات عبر العملات الرقمية.

تحت السطح، تعيد الحمائية الغربية رسم التحالفات العالمية. الصين تعمق شراكاتها مع دول الخليج عبر استثمارات في الطاقة النظيفة، بينما تبحث روسيا عن طرق جديدة لتصدير المعادن إلى آسيا بعد العقوبات الأوروبية. حتى الهند - التي تحافظ على علاقات مع الغرب - تسارع إلى تعاون تكنولوجي مع شركات الأدزية العالمية والاقتصادات الشرقية وفي اوروبا برزت ألمانيا كطرف في صناعة السيارات الكهربائية (MEA India Reports).

من هذه الاضطرابات تلوح في الأفق عدة سيناريوهات:
استمرار التصدع قد تؤدي موجة جديدة من التعريفات الأمريكية (حتى 50% على بعض السلع) إلى تفاقم الركود الصناعي في أوروبا، مع توقعات بانكماش يصل إلى 1% في منطقة اليورو (ECB Projections). او صعود المحاور البديلة حيث قد شهد اقتصادات مثل الهند والمكسيك وآسيان ومنطقة الخليج تدفقات استثمارية قد تعيد رسم خريطة التصنيع العالمية، برز مؤخراً في مؤشرات صعود الأسواق المالية، وهناك احتمالية لتطور بريكس خاصة إذا تمكنت المجموعة من تعزيز مؤسساتها المالية وتنسيق سياساتها، مما يجعلها تصبح قطباً تجارياً بديلاً، خاصة في ظل توجه 37 دولة للانضمام (BRICS Secretariat).

الدرس الأكبر هو أن الحمائية الغربية، رغم نواياها، قد تسرع في تفكك النظام الاقتصادي الذي ساعد في بنائه. بينما تكافح أوروبا وأمريكا مع التضخم والركود وبروز اضطرابات داخلية جراء الضغوط على الطبقة الاكثر استهلاكاً، تظهر الاقتصادات الناشئة مرونة ملحوظة - وإن اختلفت قدرتها على تحويل الأزمة إلى فرصة. السؤال المحوري الآن: هل يمكن لهذا النظام المتعدد الأقطاب أن ينشأ بسلاسة، أم سنشهد سنوات من الاضطراب قبل استقرار جديد؟ الإجابة قد تحددها القدرة المؤسسية لمجموعات مثل بريكس، والاستجابات الاستراتيجية للدول الصاعدة.

فيديو