الاندماج الاقتصادي العالمي بين الفرص والمخاطر - نموذج آسيان والخليج والصين كأسواق صاعدة

اقتصاد - منذ 6 ساعات

عين الجنوب | اقتصاد


في عالم يتشكل من تحالفات اقتصادية متشابكة وسياسات تنموية متباينة، برزت الصين كنموذج فريد في دمج الاستراتيجيات الداخلية مع التوسع الخارجي، بينما تواجه الدول الناشئة تحديات التوازن بين الاندماج المنظوماتي مع الشركاء الدوليين وبناء المناعة الاقتصادية الذاتية. هذا التقرير يستكشف هذه الديناميكيات عبر تحليل معمق للتجارب الدولية، مع تركيز خاص على الخليج وآسيان، وكيفية تحويل التحديات إلى فرص في ظل نظام اقتصادي عالمي متقلب، مع استطراق لمؤشر التحسن للإقتصاد المصري.  

تشهد الاقتصادات الناشئة، مثل مصر، تحسناً في مؤشرات النمو بدعم من شركاء دوليين كصندوق النقد الدولي، لكن هذه السياسات غالباً ما تأتي بشروط تخفيض الدعم وخصخصة القطاعات العامة، مما يزيد التفاوت الاجتماعي رغم تحسن المؤشرات الكلية. هنا تكمن المفارقة: الجهات التي تقدم الحلول قد تكون جزءاً من المشكلة، عبر سياسات تكرس التحسن المتداخل في سياقات اكثر تعقيداً، تخفي تحسناً وهمياً او مرحلياً بدلاً من تمكين الاقتصادات المحلية. ومع ذلك، فإن النموذج الصيني قدم رؤية مغايرة، حيث نجح في توظيف الاستثمار الأجنبي لتعزيز التصنيع المحلي، مدعوماً بتأهيل كوادر بشرية تنقل الخبرات إلى الخارج عبر مشاريع مثل "الحزام والطريق"، مما عزز نفوذه دون التضحية بالسيادة الاقتصادية. او البقاء رهينة لأزمات تعكسها التداخل الاقتصادي للشركات الاجنبية بشكل غير منظم.

في مواجهة هذا التعقيد، تبنت دول مثل الإمارات والمملكة العربية السعودية استراتيجيات هجينة تجمع بين جذب الاستثمار الأجنبي المتنوع وبناء قدرات محلية. السعودية، على سبيل المثال، ربطت رؤية 2030 ببرامج توطين الوظائف في قطاعات الطاقة والتكنولوجيا، بينما استثمرت الإمارات في البنية التحتية التعليمية لخلق كفاءات قادرة على قيادة التحول الرقمي. لكن الخطر يكمُن في "الربط غير المنسق"، حيث قد تتحول هذه الدول إلى مجرد مراكز لتصريف منتجات الشركات متعددة الجنسيات دون تحقيق قيمة مضافة حقيقية، كما حدث في بعض اقتصادات أمريكا اللاتينية خلال العقد الماضي. هنا، تبرز أهمية التخطيط الاستباقي، من خلال استراتيجيات التحكم الوطني والسياسات الناضجة المبنية على تجارب وخبرات حول العالم بجانب الاستثمار في البحث العلمي وحماية الصناعات الناشئة والشركات الوطنية والخاصة، كما تفعل الصين عبر سياسات التأهيل الداخلي والتصدير وسياسات تجارية مثل "التعريفة الجمركية الذكية" لدعم صناعاتها التكنولوجية الوليدة .  

على المستوى العالمي، تتزايد الشكوك حول أدوار المؤسسات المالية الدولية في تشكيل سياسات الدول النامية. تقارير مثل تلك الصادرة عن "الأونكتاد" تشير إلى أن شروط القروض غالباً ما تفرض تحرير الأسواق قبل اكتمال نضج القطاعات المحلية، مما يجعلها فريسة للاستثمارات قصيرة الأجل وهنا يحصل سيناريوهين الاول خراب وفقر واستنزاف او نهضة وبناء وتقدم وكل ذلك يعتمد على قرار صانع السياسات الاقتصادية الدولي الذي يأخذ في الحسبان اهمية الدولة جيوبولتيكياً واقتصادياً. في المقابل، تحاول الصين تقديم بديل عبر "البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية"، الذي يروج لشروط أقل تقييداً، لكنه يثير مخاوف من "الدبلوماسية الديونية" . هذه المعادلة تضع الدول الناشئة أمام خيارين صعبين: إما القبول بشروط الغرب التي قد تكرس التحكم الخفي، أو التعاون مع الصين التي قد تستخدم الاستثمارات كأداة نفوذ جيوسياسي بالرغم ان الصين وفرت ميزات تنافسية افضل على الاقل حتى الآن.

رغم هذه التحديات، تظهر مؤشرات إيجابية في مناطق مثل آسيان والخليج، حيث يعزز التكامل الإقليمي المرونة الاقتصادية. اتفاقيات مثل "الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة" (RCEP) تخلق سوقاً موحدة لدول آسيا، بينما تعمل السعودية والإمارات على بناء تحالفات صناعية مشتركة في قطاعات الهيدروجين والأمن الغذائي والطاقة . هذه الجهود قد تشكل نموذجاً لـ"التوازن العالمي المستحدث"، حيث تتعاون الدول الصاعدة لخلق أنظمة بديلة عن الهياكل الاستقطابية دون استعداء بل توظيف توازني لكليهما. لكن النجاح يتطلب تجاوز التنافس المحلي (مثل التنافس السعودي-الإماراتي في جذب الاستثمارات) لصالح رؤية إقليمية موحدة، كما فعلت دول جنوب شرق آسيا عبر "آسيان". حيث اشار تقرير ان الامارات باتت اكثر جذباً للاستثمار الاسيوي بينما المملكة اكثر جذباً للأوروبي والأمريكي.

الدرس الأهم من التجارب الدولية هو أن الاندماج في الاقتصاد العالمي يجب أن يكون مدعوماً بثلاث ركائز:  

التأهيل الداخلي، عبر تعليم تقني يواكب احتياجات السوق، كما فعلت الصين والهند في قطاع التكنولوجيا .  
التخطيط الاستباقي، من أجل حماية الصناعات الاستراتيجية وعدم فتح الأسواق بالكامل قبل بلوغ مرحلة النضج، نضج السياسات، نقل الخبرات، تاهيل، تمكين الشركات الوطنية والخاصة والاستناد المؤسسي المنظم، على غرار النموذج الصيني والامريكي.

الربط المتوازن عبر شراكات تكنولوجية وتنموية متنوعة (مثل تعاون السعودية مع الصين في مشاريع البنى التحتية والتجارة ومع الغرب في التكنولوجيا العسكرية والاستثمار). وبالمختصر مؤشرات صعود الاسواق الناشئة في آسيان والخليج تبرز بشكل جيد، وبنفس الوقت تظهر ملامح استقطاب.

في النهاية، العالم يشهد "انزياحاً تنموياً" تاريخياً باتجاه الاقتصادات الناشئة، لكن الفارق بين النجاح والفشل سيتحدد بالقدرة على تحويل الشراكات الدولية إلى قوة دفع للبناء الداخلي والاستفادة المعرفية من الخبرات ونقلها وتمكينها، بدلاً من أن تكون قيداً يكرس التاثر بمنظومة أوسع كما حصل في 2008 و 2020. الدول التي تدرك هذه المعادلة، كما تفعل آسيان والصين والخليج اليوم، قد تصبح محركات النظام الاقتصادي الجديد بدلاً من كونها مجرد متلقية لسياسات الآخرين بشكل اعمى.

فيديو