تحليل :الديمقراطية الأمريكية بين المثال والنفاق السياسي: قراءة في ازدواجية المعايير

دراسات وتحليلات - منذ 4 ساعات

عين الجنوب|| خاص
تتسم السياسة الأمريكية بالمرونة الظاهرية في بعض القضايا خارج حدودها، حيث ترفع شعارات الحرية والعدالة والديمقراطية، غير أن المتأمل بعمق في سلوكها السياسي يدرك أن هذه المبادئ ليست سوى واجهة تخفي وراءها انحيازًا واضحًا وتناقضًا صارخًا بين القول والفعل. فعندما تتعلق الأمور بالمصالح الأمريكية، تتخلى واشنطن عن كل تلك القيم التي تنادي بها، وتتحول إلى دولة تمارس العنف والتدخل المباشر لتحقيق أهدافها، أو للدفاع عما تعتبره مصالحها الحيوية.

لقد كانت دول أمريكا اللاتينية المثال الأبرز على هذا النهج؛ فباستثناء كوبا، لم تسلم أي دولة هناك من تدخلات الولايات المتحدة، التي استخدمت قوتها السياسية والعسكرية لفرض أنظمة موالية لها أو لإسقاط حكومات لم تنسجم مع رؤيتها ومصالحها. وهكذا أصبحت شعوب أمريكا اللاتينية تعيش لعقود طويلة تحت رحمة السياسة الأمريكية، التي تتغنى بالديمقراطية وحقوق الإنسان في العلن، بينما تمارس في الواقع أبشع صور الهيمنة والسيطرة.

أما في الداخل الأمريكي، فتبدو السياسة أكثر ثباتًا وأقل مرونة، إذ تتوارث الإدارات المتعاقبة نهجًا سياسيًا راسخًا يقوم على حماية المصالح الوطنية وضمان استقرار المؤسسات. ومع أن كل رئيس يرحل ويأتي آخر، تبقى السياسة الداخلية الأمريكية ثابتة في جوهرها، إلى أن جاء دونالد ترامب، الذي كسر الكثير من القواعد وخلق سابقة لم يشهدها التاريخ الأمريكي من قبل.

ففي عهده، اهتزت صورة الديمقراطية الأمريكية التي طالما تباهت بها واشنطن أمام العالم، عندما اقتحم أنصاره مبنى الكونغرس أثناء إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية، في مشهد صادم كشف هشاشة النظام الديمقراطي أمام موجة الغضب الشعبوي. ترامب، رجل الأعمال القادم من عالم المال والصفقات، ظن أنه يستطيع توسيع صلاحياته والتصرف كرجل دولة مطلق اليدين، متجاوزًا المؤسسات الدستورية التي تشارك تقليديًا في صناعة القرار الأمريكي.

هذا السلوك أثار موجة واسعة من الغضب داخل المجتمع الأمريكي، حيث خرجت حشود غفيرة في مظاهرات عارمة شملت معظم الولايات الأمريكية، حملت شعارًا لافتًا: **“لا للملوك”**، في رسالة واضحة ترفض محاولات ترامب تحويل النظام الجمهوري إلى حكم فردي. كانت تلك الاحتجاجات تعبيرًا صريحًا عن رفض انتهاك الحريات المدنية والحقوق الدستورية، وتأكيدًا على التمسك بمبدأ الفصل بين السلطات الذي يشكل جوهر الديمقراطية الأمريكية.

وقد شارك ملايين الأمريكيين في مظاهرات امتدت إلى أكثر من ألفين وستمائة موقع في مختلف الولايات، شملت مدنًا كبرى مثل نيويورك ولوس أنجلوس وشيكاغو، وحرص المحتجون على أن تكون مظاهراتهم سلمية في أغلبها. وفي المقابل، حاول ترامب التقليل من شأن تلك الاحتجاجات، واصفًا معارضيه بأنهم “يكرهون أمريكا”، بينما اعتبر بعض قادة الحزب الجمهوري تلك المظاهرات “حملات كراهية لأمريكا”.

لكن، وعلى الرغم من تلك الاضطرابات غير المسبوقة، ظلت السياسة الداخلية الأمريكية متمسكة بثوابتها القائمة على حماية مصالح الدولة ومؤسساتها، غير أن السياسة الخارجية بقيت خاضعة لأهواء وتقديرات قادتها. وأوضح مثال على ذلك ما قام به الرئيس الأسبق جورج بوش الابن عندما قرر غزو العراق بقرار أحادي، دون تفويض دولي حقيقي، في انتهاك صارخ للقانون الدولي ومبدأ سيادة الدول.

لقد أثبتت التجارب أن الولايات المتحدة لا تتحرك نصرةً للمظلومين أو دفاعًا عن الحريات، إلا عندما تمس تلك القضايا مصالحها المباشرة. فهي تتعامل مع العالم بمنطق الكيل بمكيالين، تدين العنف في مكان وتباركه في آخر، وتدّعي الدفاع عن الديمقراطية في دولة، بينما تساند أنظمة استبدادية في دول أخرى. وهكذا تبقى السياسة الأمريكية، رغم خطابها الجميل عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، رهينة المصالح لا المبادئ، وشاهدًا دائمًا على تناقض القول مع الفعل.

فيديو