إيديولوجية الاخوان والتغلغل المؤسساتي التنظيمي فوق الوطني

دراسات وتحليلات - منذ 11 ساعة

عين الجنوب | تقرير - خاص


في خلاصة موجعة لعقود من التمكين غير المدروس، يمكن القول إن جماعة الإخوان المسلمين، بواجهتها الدينية والسياسية، نجحت في اختطاف الوعي داخل مؤسسات حساسة كان يفترض أن تكون حامية للوطن، لا حاضنة لفكر فوق وطني. سُلم الخطاب الديني بأكمله لهذه الجماعة التي تأسست على مزيج من الكذب والتكفير والتلون، ثم جاء الاستغراب لاحقًا حين تحوّلت المساجد إلى منابر تحريضية، والمناهج الدراسية إلى أدوات تعبوية مغلقة، تجهز الأذهان لرفض الآخر وتكفير المختلف دون ان يشعر المتلقي. ما حدث لم يكن مجرد تغلغل بل مشروع ممنهج، لا يمكن التصدي للتطرف في ظله عبر استراتيجيات سطحية، إذ لا يُجدي أن تقص الفروع وأنت تحتضن الجذور. التجربة الإماراتية قدّمت مثالًا واضحًا على مقاربة جذرية، بدأت من فهم أن تحصين الدولة لا يتم إلا بتجفيف منابع الفكر المتطرف، لا باستيعابه داخل الدولة على أمل "ترويضه".

في اليمن، كانت البوابة الأخطر التي دخل منها التنظيم هي بوابة التعليم. فمنذ تحالفهم مع نظام صالح، ومرورًا بفترة ما بعد 2011، وحتى اليوم، أحكمت جماعة الإخوان قبضتها على وزارة التعليم، وجعلت من المناهج أداة لتزييف التاريخ وتهميش الهوية الجنوبية. جرى طمس كل ما له علاقة بالموروث الجنوبي، واستُبدل برواية واحدة تعزز الولاء لجغرافية الاخوان، لا للوطن وتنوعه، وتؤسس لنشء يرى في المشروع الإخواني الدولة نفسها، عبر واجهات ترويجية لتاريخ معين او سياسة معينة تخص الاخوان.

في المجال الديني، لم يكن التمكين أقل حدة. فالجماعة تعاملت مع الدين كمصدر تشريع سلطوي وليس كمنظومة قيمية، واستخدمته لتكريس نفوذها منها ما خرج بواجهه سياسية وجذور متطرفة. حتى من بدوا معتدلين في واجهتها الدينية أو ممن ارتدوا عباءة "الوسطية"، لم تكن مواقفهم تتجاوز سقف الولاء للتنظيم. لم يظهر من بينهم من يُحدث قطيعة معرفية أو منهجية مع الفكر الإخواني، بل ساهموا في تطبيع حضوره داخل المجتمع (النخبة التكنوقراطية).

أما الإعلام، فقد تحول، بفعل سيطرة الجماعة على مؤسسات التعليم، إلى حقل واسع من إنتاج السرديات الأحادية بشكل خفي. تم استخدامه بشكل مكثف لتشويه خصوم التنظيم، وبث صورة مزيفة عن الواقع، مستندين إلى أساليب باتت مألوفة: التضليل، التلاعب بالمفاهيم، صناعة العدو والخطر اما الاخرين خاصة على المستوى الدولي، وتحريف الوقائع. هذه السردية لم تكن مجرد انحياز إعلامي، بل جزءًا من استراتيجية متكاملة لتعزيز السيطرة النفسية والاجتماعية على الداخل المحلي والخارج.

في قطاع الخدمات، كانت الواجهة أكثر وضوحًا، لا سيما في الصحة، حيث تبين أن الحضور الإخواني لا يعني الكفاءة وان بدا كذلك، بل الاستخدام السياسي للمؤسسات. ورغم براعتهم في التقارير الورقية والانضباط الشكلي، لم تكن النتائج الميدانية سوى انعكاس لسياسات تفتقر إلى الرؤية الوطنية. الوضع الصحي اليوم، خاصة في الجنوب العربي، لا يحتاج إلى دليل لإثبات الإخفاق، بقدر ما يحتاج إلى تفكيك البنية التي سمحت لهذا النفوذ بأن يتحول إلى عائق أمام أي مشروع جنوبي وطني حقيقي.

ما يضاعف من خطورة هذا التغلغل، أن الجماعة لا تزال – رغم ضعفها المتزايد أمام الشعوب – تملك قدرة على التعطيل. فهي تقف حجر عثرة أمام إرادة شعب الجنوب في بناء نموذج وطني، ليس فقط عبر التشويه الإعلامي والضغط داخل المؤسسات، بل أيضًا من خلال استنزاف القدرات ومحاولة إعادة إنتاج التمكين عبر واجهات تكنوقراطية تبدو معتدلة في الظاهر، لكنها لا تزال تحمل ذات الولاء الإيديولوجي.

هذا الترابط بين التعليم والدين والإعلام والخدمات بل حتى المؤسسات المالية، خلق شبكة نخبوية متماسكة، ذات طابع تنظيمي عابر للوطنية، تستمد قوتها لا من شعبيتها، بل من تشابكها مع مؤسسات الدولة. والأسوأ أن بعض الجهات الإقليمية والدولية لا تزال تتعامل مع هذه الجماعة دون تقييم دقيق لبنيتها الفكرية أو لتجربتها في الحكم، وهو ما يعكس غيابًا في فهم تأثيرها المدمر على بنية الدولة الوطنية.

ولعل أكثر ما يفسر تراجع التنظيم داخل المجتمعات، هو الهوة التي اتسعت بينه وبين الشعوب. فالإخوان، كفكر سياسي جذوره دينية، لم يعد يمتلك القدرة على الإقناع، باستثناء محاولات معدودة لإعادة صياغته أو تجميله. لكن كل تلك المحاولات تصطدم بعامل حاسم: الشعوب التي خبرت التجربة لم تعد تثق.

أمام هذا الواقع، يبرز السؤال الكبير: كيف يمكن حماية إرادة الشعوب من تغوّل هذه الإيديولوجيات؟ وكيف يُبنى نموذج وطني صلب في وجه اختراقات تسعى لابتلاع الدولة من الداخل؟ الحل لا يكون بالشعارات، بل بمنظومة عملية تجمع بين تفعيل القانون، وتوظيف الدبلوماسية، وإثبات الكفاءة والجدوى. لا يمكن لأي شريك أن يُقبل في المنظومة الإقليمية والدولية إن لم يكن عنصر استقرار حقيقي، قادرًا على تمثيل طموحات مجتمعه، لا مصالح تنظيم مغلق على ذاته.

إن النماذج الوطنية لا تُبنى إلا حين تنفصل مؤسسات الدولة عن الولاءات الإيديولوجية، وتستعيد سيادتها في إنتاج المعرفة، وتوزيع العدالة، وصياغة الخطاب العام. وحده ذلك، ما يمكن أن يُحدث قطيعة مع الماضي المرير في التجربة الإخوانية، ويُعيد للشعوب ثقتها في المستقبل.

فيديو