الصوت الفردي والنظام العالمي بين الواقع والممكن

السياسة - منذ 1 شهر

عين الجنوب | تحليل - خاص


في ظل نظام دولي يعلن التزامه بالقيم الإنسانية بينما يتغاضى عن انتهاكاتها حينما تخدم مصالح القوى الكبرى، يبرز سؤال رئيسي هل يمكن للصوت الفردي أن يُحدث تغييراً حقيقياً في عالم تسيطر عليه ازدواجية المعايير الى حد ما؟ وهل يمكن تصور عالم تعيش فيه الشعوب بحرية وسلام دون أن يُعتبر ذلك مجرد حلم مثالي؟

وبغض النظر عن مزايا النظام الحالي، الذي وفر قدراً متقدماً من الحق للوصول الى المعلومات، وقدراً من الرفاهية والتقدم التكنولوجي والصناعي وقدراً من الاستقرار والحرية، لكن في مناطق محددة مسبقاً، هنا تبرز دروس مستفادة من الثورات والحروب ونتائجها، لماذا تحسنت الاوضاع في اوروبا ولم تتحسن الأوضاع في الشرق الأوسط؟ فـعندما اشتعلت الثورات العربية، كان الأمل يحدو الملايين في أن تُفضي هذه الحركات إلى تحول حقيقي، يحقق العدالة والرفاهية. لكن النتيجة، بعد أكثر من عقد ونصف، كانت مزيداً من الفوضى، والحروب بالوكالة، وأنظمة فاسدة جديدة ترتدي عباءة الدين او المبادىء الدولية، لماذا؟

الجواب لا يكمن في نوايا الشعوب، بل في بنية النظام الدولي نفسه. ففي الوقت الذي تدعم فيه الدول الغربية النظم الحديثة في بعض المناطق، فإنها تتغاضى عن أخرى طالما أنها تحمي مصالحها. ازدواجية المعايير هذه جعلت الثورات مدفوعة ومختطفة إما بالتدخلات الخارجية أو ادواتها الداخلية. السؤال الأهم هنا ليس ما إذا كانت الشعوب تحتاج إلى تصحيح، بل ما إذا كان النظام العالمي نفسه يحتاج إلى إعادة هيكلة جذرية.

النظام الدولي الحالي، برغم كل خطاباته البراقة، بصرف النظر عن بعض الإيجابيات، الا أنه يعمل وفق معادلة بسيطة، القوة تسبق القوانين. ففي حين يُدان غزو هنا، يُبرر غزو هناك. وفي حين تُفرض عقوبات على دولة لانتهاكها حقوق الإنسان، تُمنح أخرى حصانة لأنها حليف استراتيجي.

هذه الازدواجية ليست عيباً في النظام، بل هي جزء من ثغراته. فالقانون الدولي، كما هو مطبق اليوم، لا يُنصف الضعيف، بل يُكرس هيمنة الأقوياء، وعندما تكون المصلحة في الضعيف يتم تقويته. حتى الأمم المتحدة، التي من المفترض أن تكون منصة للعدالة العالمية، غالباً ما تكون ساحة للصراع بين القوى العظمى بدلاً من أن تكون أداة لحل النزاعات، بشكل جذري ومستدام

سؤال، ماذا لو عاشت الشعوب بحرية وسلام؟ وهنا لنتخيل للحظة عالماً تعيش فيه الشعوب بحرية، دون خوف من المؤامرات أو الحروب. عالماً تُحترم فيه ارادة الشعوب والحقوق الفردية ليس كمنحة من نظام دولي او حكومات، بل كحق أصيل. في هذا العالم، لن تحتاج الشعوب إلى اثارة اضطرابات لأن آليات سليمة مثل عدالة القانون ستكون متاحة. 

لكن هل هذا ممكن في ظل النظام الحالي؟ الإجابة هي أن النظام القائم حتى اللحظة الحالية يتخوف من مثل هذا السيناريو. فالحرية الحقيقية للشعوب تعني نهاية الاستغلال، ونهاية تجارة الحروب، ونهاية الهيمنة الاقتصادية. وهذا ما تصمت عنه القوى الكبرى التي تُمسك بزمام الأمور على الاقل حتى الان.

يُقال إن الشعوب تستحق المسارات التي تختارها، لكن هذه المقولة تتجاهل حقيقة أن الكثير من الأنظمة الفاسدة او المؤدلجة المغطاة بعباءة الدين او التي استغلت حماس الشعوب نحو تحقيق العدالة لم تأتي عبر الشعب، بل عبر فرض السيطرة أو الدعم الخارجي ومثال هنا الحوثيين، والاخوان المسلمين الذين ما إن دخلوا في مسار ارادته الشعوب الا وانبثق منها الفوضى والارهاب والحروب. المشكلة ليست في الناس، بل في البيئة السياسية والاقتصادية المفترضة التي تفرض عليهم هذه التوجهات.

التصحيح المطلوب يأتي عبر رفع وعي الشعوب، وتصحيح هيكل النظام العالمي الذي سمح بإعادة إنتاج ما عانته أروبا في القرون الوسطى وما نتج عنه من فقر وعنف وحروب. التغيير الحقيقي لن يأتي إلا عندما يُعاد تعريف مفاهيم مثل حق الاختيار، الحرية، السيادة والأمن القومي والحقوق الدولية لتصبح في خدمة البشر، وليس في خدمة النخب والقوى الكبرى التي تنتقي منه ما يحقق مصالحها.

رغم كل شيء، يبقى الأمل موجوداً. التاريخ يُظهر أن التغيير يحدث عندما تصل ازدواجية المعايير إلى حد لا يُطاق، وعندما ترفض الشعوب أن تكون رهينة للمصالح الجيوسياسية التي لا تعلم عنها أساساً. الصوت الفردي، وإن بدا صغيراً، يبقى أساسياً لأنه يُذكّر العالم بأن هناك بشراً وراء الأرقام والاستراتيجيات، والقصص حول العالم مليئة بالاحداث التي غيرت مسار وشكل العالم.

ربما لا نستطيع تصحيح الاعوجاجات بسرعة، لكننا نستطيع أن نرفع أصواتنا، أن نفضح الازدواجية، وأن نطالب بعالم أكثر إنصافاً او على اقل تقدير متعدد الاقطاب وهو ما يحصل الآن وتظهر ملامحه، لكن لابد أن يستند الى قوانين ونظم تحكمه، تصان فيه حقوق الشعوب وتحترم الارادات وتتعدد الخيارات لأن البديل هو الاستمرار في نفس الدورة المفرغة من التدخلات الخارجية وإنتاج الأنظمة الفاسدة التي لا تحمل أي حساً وطنياً تجاه الشعوب وحتى إن وجد يهمل. والسؤال الآن هو، هل نحن مستعدون لأن نكون صوت الحقيقة الذي يرفض الاستمرار في هذه الحلقة المفرغة؟

فيديو