الهوية الجنوبية والتاريخ بين الصمود ومحاولات التذويب

السياسة - منذ 20 ساعة

عين الجنوب | تقرير - خاص

منذ تبني الجنوب للقومية العربية، تحول الطموح في الوحدة إلى مشروع يمني لطمس الهوية ومصادرة الذاكرة الجماعية للشعب الجنوبي. لقد تم الترويج للوحدة آنذاك بمشاعر نحو القومية العربية، لكن الواقع الذي تلاها كشف حقيقة أن ما حدث لم يكن سوى عملية احتلال وهيمنة.

تم تمهيد الأرض لليمننة عبر سلسلة من الإجراءات التي استهدفت البنية المؤسسية والثقافية للجنوب. بدأ ذلك بتغيير أسماء الشوارع والمدارس، ونهب الأرشيف الإعلامي والتاريخي، وإلغاء السجلات المدنية. ثم جاءت المناهج التعليمية الموحدة التي أُعدّت لتصوغ وعياً جديداً يكرّس رواية واحدة للتاريخ من اليمنية، ويهمّش تاريخ الجنوب ورموزه ونضالاته. لم تقتصر هذه السياسات على المؤسسات، بل امتدت إلى الوجدان الشعبي، حيث جرى التلاعب بالمفاهيم وإعادة تشكيل الهوية على أسس لا تعترف بشراكة دولة الجنوب فيه.

عام 1994، شكّل محطة فاصلة في ذاكرة الشعب الجنوبي. فقد اعلنت اليمنية الحرب لتغزو الجنوب، استُبيحت فيه المدن ونهبت المؤسسات، بعد فتاوى دينية أُطلقت من حزب التكفير تُحلّ دم الجنوبيين وتدعو لاستباحة أرضهم وأموالهم. وقد وثّقت منظمات حقوقية دولية تلك الانتهاكات، معتبرة ما جرى تجاوزاً خطيراً للقانون الدولي الإنساني.

في السنوات التالية، تعمّقت الهيمنة عبر شبكة فساد منظّمة تقودها أطراف نافذة، أبرزها حزب الإصلاح، الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين المصنفة على قوائم الارهاب الدولي. سيطر الحزب على مفاصل القرار داخل المؤسسات، لا سيما في قطاعات النفط والتعيينات والجيش، ما جعل الدولة رهينة لمصالحه الفئوية، وأجهض أي فرصة للإصلاح أو العدالة. كان الجنوب مسرحاً رئيسياً لهذه الهيمنة، حيث تم تقويض دور الشعب وهمشت كفاءاته وإغرقت المحافظات بالولاءات الحزبية.

ثم جاءت مرحلة أكثر خراباً مع بروز ميليشيا الحوثي، التي مثّلت مشروعاً موازياً في الهدم، يقوم على أيديولوجيا طائفية وسلوك يتبنى العنف والحروب. فالجماعة لم تتردد في قصف المنشآت الحيوية كمطار عدن الدولي ومصفاة عدن، وضرب موانئ تصدير النفط مثل ميناء الضبة والنشيمة في حضرموت وشبوة، كما دمّرت المدارس والمستشفيات والطرقات، وزرعت الألغام في المزارع والقرى، وقد وثّقت منظمات متخصصة مثل "مسام" حجم الدمار الذي خلّفته الألغام الحوثية في الأراضي الزراعية والطرقات، في واحدة من أخطر ممارسات الحرب ضد المدنيين.

أمام هذا التراكم من القهر والتهميش، لم يكن مستغرباً أن يتبلور موقف شعبي واسع في الجنوب يرفض كل من الحوثيين وحزب الإصلاح. لا لأنهم فقط أدوات دمار ونهب، بل لأنهم يمثلون وجهين لمشروعين هدما مقومات الدولة وساهما في تدمير النسيج الاجتماعي والاقتصادي. فالإصلاح الذي يدّعي المدنية تقاطع مع قوى الفساد وعرقل قيام دولة القانون، والحوثي الذي يرفع شعارات الثورة مارس أقصى درجات القمع والتفجير والتمييز، وكلاهما يتخادمان لتنفيذ أجندة إيران المزعزعة.

ومع ذلك، لم ينجرّ الشعب الجنوبي إلى الفوضى. بل استمر في التعبير عن تطلعاته لدولة تحقّق السلام، وتحمي القانون، وتحترم التنوع، وتؤسس لنظام حديث يقطع مع ماضي الصراعات ومشاريع الهيمنة والإحتلال. لم يكن مطلبهم عزلاً عن محيطهم، بل استعادة كيانهم ليكونوا شركاء حقيقيين في صناعة مستقبلهم وبناء دولتهم.

إن ما تعرّض له الجنوب منذ 1990، هو مسار طويل من التذويب ومحاولات الطمس والنهب والإستغلال وعدم الإستقرار. ولذلك فإن معالجة الوضع الحالي لن تكون عادلة أو ناجحة إلا إذا اعترفت بالجنوب كقضية شعب يسعى لإستعادته وطنه، كقضية إنسانية شعبية حقيقية، لا عبر لغة المصالح أو مناورات الحلول الترقيعية. إن شعب الجنوب ليس طرفاً في معادلة، بل اساس المعادلة، ويسعى اليوم لبناء مستقبل يرتكز على دولة العدل والنظام والقانون.

فيديو