الإخوان بين التنظير الديني المتطرف والتعديل السياسي الظاهري (استراتيجية ما قبل وبعد التمكين)

دراسات وتحليلات - منذ 4 ساعات

عين الجنوب | تقرير - خاص

المشروع الإخواني واجهته تنظيم سياسي ومسلح ملبّس لبوس الدعوة، مشروع متعدد الأوجه والمسميات لكن يؤسّس من اللحظة الأولى لفكرة "التمكين" و"النخبة المؤمنة"، وخلق سلطة تخترق الدول، وتنظر إليها باعتبارها جاهلية الطابع، خارجة عن الاطار الديني، ومعبّرة عن "أنظمة الطغيان". هذه الأنساق الفكرية لا يمكن فهمها من خلال الخطابات السياسية الظاهرة فقط، بل من خلال البحث المتعمق في الجذور النظرية التي أسس لها مؤسسو الجماعة ومنظّروها الأوائل، وبالذات حسن البنّا وسيد قطب.

يبدو أن ما أسّسه البنّا من مفاهيم عامة مثل "شمولية الإسلام"، و"المنهاج الكامل"، و"الحاكمية"، تم تطويره لاحقاً إلى منظومة متطرفة وصارمة على يد سيد قطب، حيث تحوّلت المفردات من مفاهيم دعوية إلى أدوات للفرز والتصنيف التنظيمي والعقائدي، ومن ثم التبرير للعنف وتكفير المجتمعات. كتاب "في ظلال القرآن" الذي يُعدّ عند قطاع من المنتسبين للفكر الإخواني مرجع تعبّدي وروحي وتنظيمي رئيسي، يخفي في طيّاته شبكة خطرة من المفاهيم التفجيرية التي تشكّك في إيمان المجتمع، وتطرح الحكم الإسلامي من منظور إخواني صرف، وتسخر من كل المحاولات التوفيقية بين الإسلام والاعتدال والتوازن.

ففي هذا الكتاب وكتب قطب الأخرى، وخصوصاً "معالم في الطريق"، يتأسس فكر يُشيطن الواقع ويؤسطر الجماعة، يُقسم العالم إلى "معسكر إيمان" وآخر "جاهلي"، ويُلزم الجماعة بضرورة "إزالة الطواغيت" و"إقامة المجتمع الرباني"، حتى وإن اقتضى ذلك العنف والقطيعة الشاملة مع المؤسسات القائمة، والدخول في حالة تصادم مفتوح مع الأنظمة، ومع المجتمع ذاته إن لم ينخرط في مشروع التغيير الشامل. لم يكن قطب يقدم تفسير روحاني للنص القرآني، بل كان يُعيد تأويل النصوص وفق مرجعيات ثورية متأثرة بنظريات ما قبل الألفية، ويُلبسها معاني تتصل أكثر بأدبيات الثورة والحرب الأيديولوجية منه بالخطاب التربوي الإيماني المعروف عن علماء رزينون عبر التاريخ.

وهذا تحديداً هو مكمن الخطورة؛ أن تتحول نصوص الدين إلى أدوات تفكيك للمجتمع، وأن يُعاد بناء الوعي الديني على أساس منطق الصراع والاستعلاء العقدي. فتظهر مفاهيم مثل "الولاء والبراء" بمعناها الإستعدائي المطلق، لا بمعناها الفقهي، وتُطرح "الحاكمية" كضرورة تكفيرية تشمل الجميع لا كإطار تنظيمي، ويُصاغ مفهوم "الجاهلية" على أنه حالة دائمة تشمل حتى المجتمعات الإسلامية إن لم تتبنَّ الفكرة الإخوانية. هذه الأفكار غذّت لاحقاً الجماعات الجهادية مثل القاعدة وداعش، إما مباشرة أو عبر مراحل وسطى، وهو ما تؤكده العديد من الدراسات العربية والغربية.

إن الجماعة، وإن أظهرت في فترات مختلفة من تاريخها مرونة خطابية، ومشاركة سياسية، وميلاً إلى الاعتدال، إلا أن البنية الفكرية التي انطلقت منها لم تتغيّر، بل كانت تُعاد صياغتها كل مرة بأدوات مختلفة. فحيناً تكون تحت لافتة "الدعوة"، وحيناً تحت مسمى "التربية"، وأحياناً في لبوس "الإصلاح السياسي"، لكنها تحتفظ دائماً بمفاهيم سلطوية لا تقبل المراجعة مثل "التمكين"، و"المجتمع الرباني"، و"أستاذية العالم". لهذا لم يكن غريباً أن تتحول أغلب الحركات الإخوانية إلى أدوات إنتهازية لزعزعة استقرار الدولة، وتفكيك مؤسساتها، متى ما شعرت أن لحظة "الفرصة التاريخية" قد حانت.

في تونس، مثلاً، قدّمت حركة النهضة نفسها كحركة ديمقراطية، لكن بمجرد أن لاحت الفرصة للتمكين، شرعت في إحكام السيطرة على مفاصل الدولة، وتوظيف القضاء، وتفكيك الجيش، وتهميش الخصوم السياسيين، والعبث بالهوية الوطنية لصالح مشروع فوق وطني. وفي اليمن، لعب حزب الإصلاح (الذراع السياسي للإخوان) دوراً مشابها، حيث استغل الشباب لإضعاف الدولة بعد 2011 للتغلغل في المؤسسات، ثم انسحب أمام ميليشيات الحوثيين عند أول مواجهة، ووجّه سلاحه جنوباً في لحظة خيانة صريحة للتحالف الذي ادّعى الانضواء تحته. وتحوّلت حماس، من جهة أخرى، من حركة مقاومة إلى أداة طائفية تخدم مصالح إيران، وتنسّق مع ميليشيات حزب الله والحوثيين.

البيان الأخير الصادر عن الإخوان، والذي تضمّن إشارات ضمنية وصريحة لمبايعة خامنئي، لا يمكن عزله عن هذه السياقات. فالمسألة لم تعد فقط بيان سياسي متغير، بل تحوّلت إلى تبنٍّ شبه كامل لنظرية ولاية الفقيه، باعتبارها التعبير الأكثر قدرة على التحدي، والمواجهة، والممانعة. لم يعد الخطر من الإخوان في مجرد دعمهم لحركات مسلحة، بل في صياغتهم لرؤية كونية نابعة عن جمود فكري وتأطير تلائمي إخواني منتقى لنصوص البراء والولاء. في هذا التصور تسقط الحدود عن جهه وتقام تجاه اخرى، في سياق إيران تُستبدل بالدعم المالي والتقني، ويصبح التحالف مع طهران او دولاً أخرى تحصيلاً حتمياً لأي جماعة تبحث عن "التمكين" بأي وسيلة، ولو على حساب الشعوب وامنها وطموحاتها.

إن المشكلة العميقة في فكر الإخوان المعاصر، ليست فقط في مفرداته السياسية، بل في نسقه الفكري ككل، إذ أنه ينطلق من تصور يُعلي من الجماعة ومرجعيته فوق الآخرين، ومن العقيدة فوق الدولة، ومن الوهم فوق الواقع. فموضوعه ليس الإنسان، ولا بناء المجتمع، ولا تحقيق التنمية، بل بناء سلطة تدّعي أنها "إسلامية"، وتحكم باسم "الرب"، وتُقصي كل مخالف باعتباره من "الجاهلية" أو "الفساد". ولهذا لا تختلف نظرياته من حيث الهيكل عن نظريات الشيوعية اللينينية، التي بنت سلطة ظاهرها تكامل ولكن على أشلاء الدولة والمجتمع، وانتهت إلى أنظمة جامدة فاشلة. كلا المشروعين الإخواني واللينيني اتفقا على الجمود التنظيري، معاداة الإنفتاح، وتآليه السلطوية، وتقديس الرموز، وتقديم "الأمة" تعبوياً على نواته الأساسية.

ولا يُمكن إنكار أن هذه الأنساق الفكرية، رغم تهافتها، لا تزال قادرة على الإغراء، بسبب الخطاب العاطفي والدعوي، والتغذية عبر الآلة الإعلامية، واستغلال قضايا الأمة الحيّة، مثل فلسطين، كسلاح لتبرير التحالف مع قوى طائفية وعقائدية خارجية هي نفسها لها مشروعها السلطوي. وقد عملت جماعة الإخوان لعقود على صناعة واجهات ثقافية واجتماعية تمهّد لهذه الأفكار، فأنشأت جمعيات خيرية، ومنابر دينية، ومراكز دراسات، وصحف، وقنوات فضائية، وحسابات إلكترونية. وكل هذه الأدوات ليست مستقلة، بل تعمل ضمن شبكة منظمة تهدف إلى ترويج مشروع فكري موازي للمشروع الوطني، يتسلل إلى العقول باسم "الدعوة"، وهو في جوهره دعوة للقطيعة والتمرد والصدام والخراب الفكري والمادي.

إن النتيجة التي نراها اليوم ليست سوى محصلة طبيعية لعقود من التنظير الإخواني الذي مهّد لتشظي المجتمعات، وتفتيت الدول، وتدمير قيم الاعتدال، وخلق أجيال تُحكّم النصوص المجتزأة على حساب السياقات، وتغلب العنف على المصلحة العامة، والولاء التنظيمي على الانتماء الوطني. ولا يمكن مواجهة هذا الخطر بمشاريع سطحية أو مؤقتة، بل بمشروع فكري رصين، يرفض التطرّف بكل أشكاله: لا الغلو الليني النظري ولا التطرف الديني الإخواني ولا الانحلال الليبرالي المنفلت. فالحل ليس في الاستبداد المقابل، بل في التوازن. التوازن بين الدين والتنوع، بين الحرية والهوية، بين دولة القانون العادلة والمجتمع، بين الولاء الوطني والانفتاح العالمي.

إن المستقبل لن يكون للإخوان، ولا لأي جماعة تؤمن أن الطريق إلى الجنة يمر عبر نمذجه قسرية للدين، أو تنظير إجتماعي مغالي للدولة أو أن "الحكم باسم الولاية" مُبرر لقتل الآخر وسفك دمه. المستقبل لمن يؤمن بأن الإنسان أكرم من الطائفة، والمجتمع أولى من الجماعة، والدولة فوق الجميع، والحياة فوق الأيديولوجيا الضارة.

فيديو