الهجمة الإعلامية ضد تحركات القيادة الجنوبية حرب نفسية منظمة لزعزعة الثقة أم انعكاس لنزعة الهيمنة؟

دراسات وتحليلات - منذ 4 ساعات

الهجمة الإعلامية ضد تحركات القيادة الجنوبية حرب نفسية منظمة لزعزعة الثقة أم انعكاس لنزعة الهيمنة؟

عين الجنوب | تحليل - خاص

من الملاحظ جداً، بعد أن بدأ الجنوب باستعادة حضوره في صناعة القرار، تحولت الحملات الإعلامية التي تستهدفه من مجرد ردود فعل متفرقة إلى منهجية ممنهجة منظمة متشابكة وموجهه، تقوم على التضليل، والتأطير السردي، وصناعة الأكاذيب، وتحريف الواقع، وتعبر عن امتداد للصراع الجنوبي اليمني، وتبرز أزمة أعمق في العقلية السياسية اليمنية، التي تحاول عدم تقبل حقيقة وجود كيان جنوبي مستقل في قراره، خاصة عند الحديث عن إستعادته لزمام المبادرة من أجل شعبه والتواجد القوي على الارض.

الاستراتيجية المتبعة في هذه الحرب الإعلامية تقوم على ركائز عدة، تبدأ بتشويه صورة القيادات الجنوبية، وتمر بتقويض او التشكيك بـ أي إنجاز يُحقق، ولا تنتهي عند استغلال قنوات التأثير الدولي لإبقاء الجنوب في دائرة التبعية او خلق صورة نمطية غير صحيحة عن الشعب الجنوبي وهويته وتاريخه. لكنها في جوهرها يمكن أن نعتبرها كـ تكتيك إعلامي مؤقت، تبرز لعقلية سادية ترى الجنوب بشكل مؤسف مجرد (ملحق جغرافي) لسلطة اليمنية، وهو ما يفسر حالة الهلع التي تصيب القوى اليمنية كلما تقدم الجنوبيون خطوة باتجاه إستعادة القرار.  

من يتتبع خطابات الإعلام المعادي للجنوب، سواء كان يتبع ميليشيا الحوثي الإرهابية أو تنظيم الاخوان أو تيارات اخرى مستقلة ، سيلاحظ أنها تتبع نسقاً واحداً، يتكرر في كل مرحلة سياسية وفق الظروف. فحينما يكون الجنوب في وضع دفاعي، تتركز الهجمات الإعلامية على (الوحدة، وإظهار الجنوب كأقلية (يحتاج الى الوصاية اليمنية)، وعندما يكون الجنوب في وضع هجومي، تتغير النغمة إلى شيطنته، وربطه بأجندات خارجية، وتصويره كـ خطر على الإستقرار، رغم أن المنطقة لم تعرف الإستقرار الا بعد تولي القوات الجنوبية ملف الأمن في الجنوب، وأحداث ما بعد 2015 ليست ببعيد.

هذا النمط والتكتيك والحبكات والتسلسل، من السذاجة أن نعايره كغير منظم او هرطقات، الواقع انه يعتمد على مجموعة من الأدوات التي تكشف عن مستوى عالي من التنسيق، بدءاً من استخدام الشبكات الإعلامية الكبيرة، مروراً بتوظيف الحسابات الإلكترونية الممولة، وانتهاءاً بتوجيه التقارير الصحفية الدولية من خلال قنوات ضغط وعلاقات قديمة. هذه الأدوات تُستخدم جميعها لهدف أساسي واحد؛ وهو إبقاء الجنوب في حالة دفاع مستمر، وإبقائه مشغولاً في تفنيد الاتهامات بدلاً من المضي قدماً في بناء مشروعه الوطني.  

إحدى أبرز التقنيات المستخدمة في هذا الإطار هي ما يعرف بـ (التضليل بالتكرار)، وهي تقنية تقوم على نشر الأكاذيب بصورة مكثفة ومتكررة لدرجة أن تصبح حقيقة مقبولة لدى الجمهور غير المطلع. يتم ذلك من خلال نشر الخبر الكاذب في قنوات متعددة، بحيث يبدو وكأنه يأتي من مصادر مختلفة، رغم أن المصدر الأصلي واحد. وهذا يفسر كيف أن إشاعة تُطلقها قناة إخوانية في إسطنبول او الدوحة، تتحول بعد ساعات إلى (حقيقة) في تقارير صحفية دولية، والسبب هو التكرار والانتشار الأفقي داخل المنظومة الإعلامية اليمنية المعادية للجنوب او الإخوانية الحوثية الاوسع. 

ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يمتد إلى التلاعب بالمصطلحات، وهي تقنية أخرى تُستخدم لتشويه أي خطاب جنوبي. كمثال في هذا الأمر، يتم وصف المطالبة باستعادة الدولة الجنوبية بأنها (انفصال)، ومن شدة تكرر هذا المصطلح، رأينا بعض التقارير الدولية أستخدمت هذا المصطلح كما يتم تصوير أي تحرك سياسي جنوبي على أنه (تمرد) وهذا المصطلح يتم إستخدامه بشكل واسع عند تتبع المنظومة الأعلامية خاصة الإخوانية مثل قناة المهرية تحديداً، بينما عندما يتفاوض الحوثي مع القوى الشمالية على حكم صنعاء، يُطلق على ذلك مصطلح (اتفاق سلام!) ياللروعة! هذه الازدواجية في المصطلحات يجب أن نعي أنها محسوب لها بدقة، حيث تهدف إلى خلق صورة ذهنية سلبية عن الجنوب في الوعي العام، محلياً ودولياً.  

إحدى الحيل الأخرى الملاحظة التي يستخدمها الإعلام المعادي هي تقنية (القلب السردي)، حيث يتم عكس الأدوار بين الضحية والجلاد، المظلوم والظالم، ففي حين أن الجنوب هو المتضرر من عقود من الاحتلال والنهب الممنهج، يتم تصويره وكأنه هو المعتدي او البطال. مثلاً كان حميد الأحمر وعفاش يستغلان الجنوب إقتصادياً وعسكرياً وسياسياً وهناك وثائق وتقارير دولية بل كتب تم نشرها حول هذا الموضوع، بينما يتم تصوير الدور الجنوبي الذي يسعى الى تمكين شعبه الذي لا يتجاوز تعداده 6 مليون على أنه هو الذي يريد أن يستغل وينهب ويعطل ويدمر، والحقيقه أنهم يريدوا صراعاً جنوبياً جنوبياً حتى يتسنى لهم وحدهم إستغلاله حسب حساباتهم إذا عادوا، كما يتم تجاهل كل الجرائم التي ارتُكبت بحق الشعب الجنوبي، والتركيز فقط على أي خطأ أو حادثة تحدث داخله، لإظهار أن الجنوب عاجز عن إدارة نفسه او غير مستقر وبالتالي عودة الهيمنة اليمنية عليه. هذه التقنية تعتمد على استغلال الطبيعة العاطفية للجماهير في الجنوب، التي تتأثر بالصور والمشاهد الآنية أكثر من السياقات التاريخية.

ايضاً هناك دور للهجمات السيبرانية، التي أصبحت جزء أساسي من هذه الحرب الإعلامية. هناك عمليات اختراق وتلاعب بالمنصات الرقمية، حيث تُستخدم لخلق انطباع أن الجنوب يعاني من انقسامات داخلية خطيرة، بينما الواقع يؤكد أن ما يُطرح في هذه البلبلة الإلكترونية ليس سوى نتاج لعمليات مدروسة تهدف إلى تشتيت الانتباه. فمثلاً الجنوبيين في جوهرهم ليسوا مهتمين في حكم الشمال ولم يتطرق احد الى ذلك، فهل من الممكن أن نجد جنوبي يسمي نفسه الجُماعي، او الريمي، او الحيفاني، من المؤكد لن نجد خاصة في السياق السياسي، لكن في الجانب الآخر هناك عشرات الآلاف من الحسابات بأسماء جنوبية لسياسين وناشطين يمنيين لماذا ؟

العاقل يجب أن يسال نفسه ويحلل البعد الإستراتيجي لهذه التكتكيات الإعلامية الخبيثة، لماذا كل هذا التصعيد الإعلامي؟ وما الذي يخشاه الطرف اليمني؟ الحقيقة أن ما يقلقهم لا نحصره فقط في تقدم المجلس الانتقالي أو الإنجازات السياسية والعسكرية او حتى الإقتصادية، بل أيضاً في خوفهم العميق من أن الجنوب بات يخرج تدريجياً من دائرة هيمنة صنعاء وقواها. فكلما خطا شعب الجنوب خطوة نحو الاستقلال الاقتصادي أو السيادي، كلما زادت هذه الحملات، لأنها تهدد جوهر ما يسمى الفرضية اليمنية التي بُنيت بعد عام 90 بقوة السلاح والتي تقوم على على فكرة مركزية صنعاء الزيدية وتحكمها في كل شيء او حتى مأرب الإخوانية.

وإذا ما تمعنّا أكثر في جذور هذه الحملة الإعلامية، سنجد أنها ليست جديدة، بل تعود إلى قبل 3 عقود مضت، حينما استخدم النظام اليمني نفس التكتيكات ضد الجنوب قبل اجتياحه عسكرياً في حرب 1994 تم إستخدام شعار أن نظام صنعاء يحارب الإشتراكيين الكفار حسب فتوى ومبرر حزب الإصلاح، بينما تم إستخدام مصطلح الإنفصاليين حسب ما أعلنه شريكهم عفاش، وفي عام 2015 أوجد الحوثيين مصطلح الدواعش، بينما الإخوان عبر الجماعات الإرهابية تم إستخدام مصطلح مرتزقة الإمارات بمعنى مهما فعلت لابد وأن تكون هناك تهمه او إشاعة او مبرر يتم إعداده قبل أي تحرك عسكري او اعلامي ضدك . لكن الفرق اليوم هو أن شعب الجنوب قد تطورت عقليته وأصبح أكثر وعياً، ولم يعد ساذجاً ليصدق نفس الأكاذيب التي مررها إعلام اليمنية سابقاً او يحاول تمريرها حالياً.

لكن مع ذلك، لا يمكن التقليل من خطورة هذه الحرب الإعلامية. فالإعلام المعادي لا يحتاج إلى أن يقنع كل الجنوبيين الذين ربما قد وصلوا في الأغلبية الى مرحلة من التشبع من الأعلام اليمني، لكن يكفيه أن يخلق الشك في عقول البعض، وأن يجعل من الصعب نسبياً على أي طرف جنوبي أن يتحرك بحرية دون أن يكون ملاحقاً بهذه الاتهامات المصطنعة داخل أرضه خاصة بعد الدفع المكثف لنازحين يروجون هذه الأجندة في أوساط الجنوبيون أعلامياً ورقمياً وميدانياً عند تبضعك، وعند شراءك للقات، وعند دخولك لمطعم ما. بل حتى في العملية التعليمية نفسها. وهذا هو الهدف الحقيقي؛ خلق حالة من الإرباك والتشكيك، بحيث يصبح الجنوب في حالة قلق دائم حول صورته الإعلامية بدلاً من التركيز على بناء مؤسساته. 

لذلك، فإن الرد على هذه الحملات لا يكون بمجرد النفي أو الدفاع، بل بالتركيز على الأولويات الإستراتيجية وتعزيز دور إعلام جنوبي قوي، يواجه الشائعات بجدارة، ويفرض واقعاً إعلامياً جديداً يجبر الآخرين على التعامل مع الجنوب كقوة قائمة بذاتها، قادر على مخاطبة الداخل والخارج، واستغلال الأدوات الرقمية بطريقة ذكية، بعيداً عن أسلوب الرد العاطفي الذي يريده الإعلام المعادي.  

ما يحدث أمامنا قطعاً لم يعد خافياً لمن يتأمل حيث يعد معركة لحالها، وهي معركة هوية ووعي. الطرف القوي هو من يستطيع أن يخلق السردية الأكثر إقناعاً وتأثيراً وبشكل مفحم، فالحجة بينة وهي الفاروق. والجنوب، رغم كل هذه الحملة ضده، قطعاً هو صاحب الحق ويملك القدرة على فرض روايته الحقة، فالمعركة على الأرض أثبت شعب الجنوب نفسه عسكرياً عبر التاريخ ولذلك يحاول الطرف اليمني تجنب خيار الحرب العسكرية لكنه ما زال يراهن على معركة حرب الإيديولوجيا والإعلام.

فيديو