تحليل | مشهد مأزوم في اليمن من الفشل البنيوي إلى الحاجة لميلاد جديد

دراسات وتحليلات - منذ 21 يوم

عين الجنوب  | تقرير - خاص

في التجربة الحديثة، لا يبدو أن تغيير الأشخاص قاد إلى تغيير السياسات، ولا أن تدوير المناصب أسهم في تدوير عجلة التنمية. فمنذ اشتعال الحرب، لم يكن استبدال رؤساء الحكومات إلا انعكاساً لعمق الأزمة، لا استجابة لها. أربعة رؤساء تولّوا قيادة الحكومة المعترف بها دولياً، من خالد بحاح، إلى أحمد بن دغر، ثم معين عبدالملك، وأخيراً أحمد عوض بن مبارك، وكل منهم جاء تحت وعود التحول والتصحيح، لكن النتيجة كانت اتساع الفجوة بين السلطة والمجتمع، وازدياد تآكل الثقة.

خالد بحاح، الذي تولى الحكومة في لحظة مفصلية أعقبت اجتياح صنعاء من قبل الحوثيين، ظهر كوجه توافقي مقبول داخلياً وخارجياً، خاصة بعد منحه موقع نائب الرئيس. أبدى بحاح مرونة في التعامل مع الواقع، خصوصاً في الجنوب، وسعى لإدارة الدولة بقدر من الواقعية، غير أن جهات داخل الشرعية تحديداً حزب الإصلاح رأت في نهجه تهديداً لمصالحها. افتعلت ضده الخلافات، حتى وصلت العلاقة مع الرئيس هادي إلى طريق الصدام، فكان مصيره الإقالة.

جاء بعده أحمد عبيد بن دغر، الذي عرف بقدرته على التوازن والتقارب مع أطراف الشمال والتحالف، لكنه أخفق بشكل صارخ في الملفات الخدمية والمعيشية، خصوصاً في محافظات الجنوب. في عهده، تضخمت شبكات الفساد وانهارت الخدمات، وحدثت مواجهة مباشرة مع المجلس الانتقالي الجنوبي والقوى المحلية، ما دفع بالرئيس هادي إلى إنهاء مرحلته وإحالته للتحقيق، دون أن يُستكمل أي مسار للمحاسبة.

مع معين عبدالملك، بدا أن السلطة تبحث عن وجه تكنوقراطي يرضي الخارج ويقدم صورة مدنية أكثر قبولاً. لكن عهده كان استنساخاً مشوهاً للسلطة السابقة، إذ استمر الفشل وازداد الانفصال عن واقع الناس. غابت المعالجات، وتوسع الفساد، واستمرت الحكومة في الإقامة عن بُعد، فيما بقيت عدن والمحافظات المحررة تتلوى تحت وطأة التردي، في الخدمات، في المرتبات، وفي البنية الإدارية والمالية، دون أن تلوح أي مؤشرات لتغيير فعلي.

ثم جاء أحمد عوض بن مبارك، محمّلاً بآمال التغيير، لكنه سرعان ما اصطدم بجدار سميك من النفوذ المعطل داخل مجلس القيادة، لا سيما تيار الشمال بقيادة رشاد العليمي، الذي بدا غير متقبل لمحاولات إصلاح جدية. كلما اقترب بن مبارك من مراكز الفساد، كلما كُشرت في وجهه أنياب المصالح العتيقة. وفيما بدا أن رئاسة الحكومة قد تعود نقطة انطلاق، تحولت إلى نقطة شلل جديدة.

ما يتكرر هو ذاته: حكومة لا تحكم، مجلس قيادة لا يقود، وشرعية لا تمثل إلا الخارج، فيما الداخل يغرق في صراعات بلا أفق. الفساد أصبح أفقاً وحيداً، والمحاصصة منهجاً لا يُمس. أما الجنوب، فهو الجبهة التي تتلقى دائماً تبعات الفشل دون أن تكون شريكاً حقيقياً في القرار، ولا في صياغة المستقبل. المواطن في عدن والمكلا وأبين ولحج، لا يكاد يفرّق بين حكومة الأمس واليوم، فالمعاناة واحدة، والحلول غائبة، والخطاب الرسمي لا يقدّم سوى وعود خاوية.

أكثر ما يعمّق الجرح الجنوبي هو الشعور المتنامي بأن كل الحكومات المتعاقبة لا ترى الجنوب إلا من نافذة الموارد أو الأمن، لا باعتباره شريكاً في السيادة أو التنمية. هذا التهميش البنيوي، المقرون بغياب أي مشروع وطني جامع، جعل من الجنوب بؤرة قابلة للانفجار، ليس فقط بسبب الأوضاع الاقتصادية، بل لأن الهوية الجنوبية تُصادر باستمرار من قبل سلطة لا تفهم طبيعة التحول الذي شهده الجنوب منذ 2015.

الخطير أن مجلس القيادة الرئاسي لم يكن أفضل حالاً، بل ظهر كمجلس موزع الولاءات، يفتقر لرؤية موحدة، ويتعامل مع الجنوب بمنطق الاحتواء المؤقت لا الشراكة الحقيقية. فيما تغيب المحاسبة ويتكرس النفوذ الخارجي، من خلال تدخلات تفرغ المؤسسات من مضامينها السيادية، وتحوّل القرار الوطني إلى نسخ مشوهة من الإرادات الإقليمية والدولية.

كل هذا يحدث في وقت باتت فيه البلاد تقف على أعتاب انفجار اجتماعي واقتصادي، تغذيه حالة الغضب الشعبي، وتفاقمه الفجوة المتزايدة بين المواطن والدولة. لم تعد الأزمة أزمة حكومة أو أسماء، بل أزمة منظومة كاملة، ثقافياً وإدارياً وسياسياً، تحتاج لاجتثاث لا لتجميل.

أما الحل، فلا يكمن في انتظار رجل معجزة يعيد ضبط الإيقاع من الداخل، بل في إعادة بناء المفهوم نفسه. في الجنوب تحديداً، لا يمكن الاستمرار في هذا المسار الكارثي دون استحقاق سياسي يعيد تعريف العلاقة بين الجنوب وبقية النخب اليمنية. لابد من مرحلة انتقالية يقودها الجنوبيون بأنفسهم، عبر حكومة مصغرة مهنية، منفصلة عن المحاصصات الحزبية، ومسنودة برؤية دولية تتفهم طبيعة القضية الجنوبية لا تنكرها.

إنّ غياب العدالة، واستمرار إدارة المناطق المحررة بمنطق الوصاية والنفوذ، يعني أن أي تغيير في الأشخاص، سيبقى مجرد محاولة لتدوير الفشل. المطلوب هو ميلاد جديد لنهج حكم رشيد، تنبثق منه مؤسسات نزيهة، وقيادات محلية مسؤولة، تخرج من تحت مظلة الولاءات إلى فضاء السيادة.

إن الجنوب بحاجة لحكومة تمثل تطلعاته لا تمثل عليه، بحاجة لتحالف شفاف مع المجتمع الدولي يستند إلى الشفافية والندية، لا إلى لغة المصالح الغامضة. وفوق ذلك، هو بحاجة إلى أن يُمنح الحق في أن يقرر مصيره، كشرط أساسي لأي استقرار حقيقي.

فاليمن، في شكله الحالي، لم يعد قابلاً للإصلاح من الداخل، إلا إذا كانت هناك شجاعة كافية لإعادة تعريفه. وما لم يحدث ذلك، فإن كل الحكومات القادمة ستكون نسخاً مكررة من الفشل ذاته، وأنّ الجنوب، بوعيه المتراكم وتاريخه السياسي، قد لا ينتظر طويلاً كي يكتب فصله الأخير بنفسه.

فيديو