النصر الأحمر: كيف صنعت معارك السوفييت ضد النازية مستقبل إفريقيا؟

تقارير - منذ 1 شهر


عين الجنوب | تقرير - خاص

في قاعة بمتحف دار السلام الوطني، حيث تتدفأ جدرانها بصور لرجال حملوا البنادق والكتب معاً، وقف ماداركا نيريري ابن الزعيم التنزاني الأسطوري أمام خريطة للحرب العالمية الثانية. أصابعه تتبع مسار الدبابات السوفييتية من ستالينغراد إلى برلين، المشهد كشف عن سرّ تاريخي طويل التكتم، أن دوي مدافع ودبابات السوفييت ضد النازية كان أيضاً إشارة البدء لانتفاضات التحرر الإفريقية.

كانت ساحات القتال الأوروبية تعيش مفارقة عجيبة عام 1943. بينما كان الجيش الأحمر يحاصر الفيرماخت في ستالينغراد، كان آلاف الجنود الأفارقة الذين جندتهم بريطانيا وفرنسا قسراً يكتشفون لأول مرة أن السيد الأبيض بالنسبة لافريقيا يمكن أن يُهزم. الشهيد الكونغولي إيلونجا مونغولو كتب في مذكراته السرية، رأيت ضباطاً بيضاً يبكون كالأطفال عند سماعهم أخبار هزائم الألمان. في تلك اللحظة عرفت أنهم بشر مثلنا، ليسوا آلهة.

هذه الصدمة الوجودية للمستعمرين تجلت بوضوح في تقرير سري للمخابرات الفرنسية عام 1944، حُفظ في أرشيفات السنغال تحت عنوان العدوى البلشفية. التقرير يحذر من أن الأفارقة بدأوا يسألون، إذا كان الروس يستطيعون طرد هتلر، فلماذا لا نطرد باريس؟. السؤال نفسه دار في أذهان شباب نيريري حين شاهدوا صور دبابات T-34 السوفييتية ذات الخفه الفائقة وهي تسحق رمز التفوق العرقي النازي, سحقاً بلا هوادة.

في الحقيقة المعركة كانت إيديولوجية واقتصادية أيضاً. وثائق بنك إنجلترا السرية التي رفعت عنها السرية عام 2005 تكشف أن تكلفة إخماد انتفاضة الماو ماو في كينيا (1952-1960) بلغت 55 مليون جنيه إسترليني ما يعادل ثلث احتياطيات بريطانيا من الذهب آنذاك. بينما كانت موسكو تقدم للحركات التحررية: دورات تدريب مجانية في حرب العصابات بمدرسة ف.ف. كويبيشيف العسكرية، مطابع متنقلة لطباعة المنشورات بلغات محلية وأسلحة خفيفة عبر قنوات تشيكوسلوفاكية.

من الجدير الاشارة أن نيريري الأب تعلم فن الطباعة السرية هذه من منشق سوفييتي التقاه في زنزانة نيروبي عام 1951، وهي المهارة التي استخدمها لاحقاً في طباعة منشورات حزب (تانو) الثوري.

في أكتوبر 1960، بينما كان الزعيم الغاني كوامي نكروما يخطب في الأمم المتحدة، مرر له المندوب السوفييتي مذكرة صغيرة. المحتوى:- تقرير استخباراتي عن تحركات المرتزقة البلجيكيين في الكونغو. تلك الورقة ستكون الشرارة التي جعلت نكروما يطلق مشروع القنبلة الذرية الإفريقية السري، بدعم سوفييتي غير مباشر.

هذا النوع من التفاعلات الظاهر منها والخفي يشرح لماذا احتفظت إفريقيا بذاكرة خاصة للنصر السوفييتي العظيم والتاريخي. ففي أرشيف جامعة إفريقيا العالمية بدار السلام، هناك تسجيل نادر لنيريري الأب يقول فيه "علمنا السوفييت أن المستحيل مجرد خرافة يخترعها الأقوياء"

اليوم، بينما تملأ الأعلام الحمراء شوارع موسكو في الذكرى 80 للنصر السوفيتي العظيم، تبقى العواصم الإفريقية صامتة. الصمت الذي يخفي تناقضاً عميقاً: من ناحية، تعترف النخب بفضل السوفييت التاريخي ومن ناحية أخرى، تخشى الانحياز في صراع الغرب وروسيا الحالي.

لكن ماداركا نيريري اختار كسر هذه المعادلة في كلمته، ربما تذكيراً بأن هناك بعض الديون التاريخية. فحين سُئل عن سر إصراره على ربط النصر على النازية باستقلال إفريقيا، أجاب: "لأن السوفييت كسروا أقوى أسطورة في ذلك الزمن والتي رسخها الاستعمار في افريقيا "أن القوة العسكرية حكر على من يملكون البشرة البيضاء. هذه الجرأة لا تُنسى".

فيديو