المشهد الجيوسياسي في مرحلة التحول، صراع النفوذ وإعادة تشكيل التحالفات في عالم متعدد الأقطاب

دراسات وتحليلات - منذ ساعتان

عين الجنوب | تقرير - خاص

تغيرات ملحوظة يشهدها النظام العالمي، حيث تبرز معالم خريطة جيوسياسية جديدة تتشكل عبر سلسلة من التحركات الاستراتيجية المتناغمة أحياناً والمتنافسة في كثير من الأحيان. المشهد الحالي، حيث تتحرك القوى العظمى والصاعدة في آن واحد، كل منها يسعى لتعزيز نفوذه وإعادة ترتيب التحالفات الدولية لصالحه.

في الجانب الروسي، نلاحظ تركيزاً على تعزيز العلاقات الاستراتيجية مع العالم الإسلامي، كما يتجلى في تصريحات الرئيس بوتين الأخيرة التي أشاد فيها بهذه العلاقات ووصفها بأنها مثال على التعاون المبني على المساواة في القرن الحادي والعشرين. هذا التوجه هو جزء من استراتيجية أعمق تهدف إلى تعزيز الوجود الروسي، مستغلة في ذلك التراجع النسبي للنفوذ الأمريكي في بعض المناطق، نتيجة عوامل عدة، منها الازدواجية في المواقف.

وفي السياق ذاته، يأتي التطور العسكري الروسي المتمثل في تسليم دفعات جديدة من مقاتلات سو-35 إس المتطورة لوزارة الدفاع الروسية، مما يعزز القدرات العسكرية لموسكو ويؤكد عزمها على الحفاظ على مكانتها كقوة عسكرية كبرى لا يمكن تجاهلها في المعادلة الدولية، خاصة في ظل الصراع الأوكراني الروسي الحالي.

والتي بسببها، تشهد العلاقات الصينية-الروسية تطوراً ملحوظاً، حيث وصفها بوتين بأنها علاقات متحضرة، في إشارة إلى طبيعتها الاستراتيجية التي تتجاوز التحالفات المؤقتة لتشكل كتلة جيوسياسية بديلة عن الهيمنة الغربية. هذا التحالف الاستراتيجي بين العملاقين الآسيويين يشكل تحدياً مباشرا للنظام الدولي القائم على الهيمنة الغربية.

حتى في منطقة الخليج، تبرز المملكة العربية السعودية الشقيقة كفاعل رئيسي في المشهد الجيوسياسي الجديد، حيث أعلن ولي العهد السعودي عن إطلاق شركة هيوماين كرائد عالمي في مجال الذكاء الاصطناعي، في خطوة تعكس التحول الاستراتيجي للمملكة نحو اقتصاد المعرفة والتحول الرقمي. هذا التوجه يتزامن مع تحركات إماراتية مماثلة، نحو تعزيز دورها كمركز عالمي للإقتصاد الرقمي المستدام وتعزيز العلاقات الإقتصادية مع دول شرق آسيا يتجلى في الاتفاق بين مكتب أبوظبي للاستثمار وميزوهو بنك الياباني، مما يعكس سعي دول الخليج لتنويع شراكاتها الاقتصادية والاستثمارية بعيداً عن التحالفات التقليدية.

وفي سياق متصل، تشهد العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين تطوراً ملحوظاً، حيث أعلنت واشنطن عن خفض الرسوم الجمركية على البضائع الصينية إلى 30%، بينما قامت الصين بالمقابل بخفض رسومها إلى 10% لمدة 90 يوماً. هذه الخطوة، رغم ظاهرها الإيجابي، تحمل في طياتها أبعادا استراتيجية مبطنة، حيث يمكن تفسيرها كمحاولة أمريكية لامتصاص التوترات التجارية مع الصين، وفي الوقت نفسه كأداة لتعطيل التنسيق الصيني-الروسي.

في التحليل العميق لهذه التحركات، يبرز سيناريو رئيسي يتمثل في محاولات القوى التقليدية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، لإعادة تشكيل التحالفات الدولية عبر سياسة فرق تسد، مستخدمة في ذلك أدوات اقتصادية وتجارية لخلق انقسامات في التحالفات الناشئة، وخاصة المحور الروسي-الصيني والتحالف الخليجي المتنامي.

غير أن هذه المحاولات تواجه تحديات جمة، إذ أن طبيعة التحالفات الجديدة تقوم على أسس استراتيجية متينة تتجاوز المصالح المؤقتة. فالشراكة الروسية-الصينية، على سبيل المثال، لم تعد مجرد تحالف تكتيكي، بل أصبحت إطار استراتيجي شامل يشمل التعاون في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية. وبالمثل، فإن التحالفات الخليجية الآسيوية تنمو على أسس من المصالح الاقتصادية المتبادلة والرؤى الاستراتيجية المشتركة التي تتجاوز أي تنازلات تجارية مؤقتة.

في الحقيقة إن العالم فعلياً يشهد مرحلة انتقالية حاسمة، حيث تتصارع القوى العظمى والصاعدة على تشكيل النظام الدولي الجديد. في هذه المعركة، تبرز أدوات جديدة للنفوذ تتجاوز القوة العسكرية التقليدية لتشمل القوة الاقتصادية والتكنولوجية والمعلوماتية. والسؤال الذي يجب أن نطرحه بقوة هو:- هل ستنجح محاولات تفكيك التحالفات الدول العظمى والصاعدة، أم أن التوجه نحو عالم متعدد الأقطاب قد أصبح حتمية تاريخية وملحة لا رجعة فيها تظهر ملامحه في واقعنا المشاهد؟

فيديو