المؤسسات الدولية بين مظاهر الانحراف ومطالب الالتزام الاخلاقي

دراسات وتحليلات - منذ 8 أيام

عين الجنوب | تقرير - خاص


في ظل التحولات الإقليمية والدولية، وضمن الحديث المتكرر عن حلول سياسية وتسويات شاملة للصراعات في اليمن، تظهر مفارقة خطيرة تستدعي التأمل. فالجنوب، ومن منظور محايد ومنطقي، قدم نموذجاً متقدماً في تعزيز قيم الاعتدال، وترسيخ أسس بناء مؤسسات الدولة، والسعي الحقيقي لتحقيق الاستقرار الداخلي. هذا المسار لم يكن وليد الصدفة، بل نتيجة عمل حثيث ومتراكم قاده المجلس الانتقالي الجنوبي منذ سنوات، في مقابل أنماط سلطوية مأزومة في الشمال، انشغلت بالصراع على النفوذ بدل بناء الدولة.

المجلس الانتقالي لم يكتفِ برفع الشعارات، بل مضى إلى خطوات عملية، فأعاد ترتيب الأجهزة الأمنية والعسكرية في معظم مناطق الجنوب، وفتح الأبواب أمام الشراكة الدولية في مكافحة الإرهاب، وحرص على إبقاء قنوات التواصل مفتوحة مع المكونات السياسية المختلفة، دون إقصاء أو نزعة هيمنة. في الوقت ذاته، ظل يواجه خصمين : نفوذ أيديولوجي مستبد تمثله جماعات الحوثي، وآخر براغماتي متقلب تمثله بقايا نفوذ الإخوان، وكلاهما يتغذى على استغلال الدين وتوظيفه لتبرير سلوك سلطوي لا ينتمي للحداثة ولا لمنطق الدولة.

في هذا السياق، تأتي التصريحات الأخيرة للمبعوث الأممي التي تتحدث عن "السلام الشامل" لتضع علامات استفهام كبيرة. إذ كيف يمكن الحديث عن سلام دون اعتراف بواقع تاريخي بسيط: أن الجنوب، منذ عهد الممالك الى استقلاله عن الاستعمار البريطاني، لم يحتكم يوماً للشمال، ولم يخضع لحكم صنعاء ابداً، بل دخل معها في وحدة لم تدم إلا لسنوات قليلة، وانتهت بالحرب والاحتلال في 1994؟ وكيف يمكن بناء حل شامل دون الاعتراف بحق شعب الجنوب في تقرير مصيره وفق إرادته الحرة؟

بلغة أكثر واقعية، فإن أي حل سياسي يفضي إلى منح الحوثيين دوراً خارج نطاق مناطقهم الجغرافية، أو يضفي شرعية على سلطتهم دون محاسبة على انتهاكاتهم، لا يعد تسوية بقدر ما هو سقوط أخلاقي للمنظومة الدولية. سقوط لا يعبّر عن العجز فقط، بل عن ازدواجية قاتلة، باتت الشعوب، في عصر العولمة والاتصال، أكثر وعياً بها من أي وقت مضى. وما يحدث في العراق مثال حي على هذا الانحدار: بلد كان يوماً رابع دولة مصدّرة للنفط تحوّل إلى ساحة فقر وفساد وحشد شعبي، بسبب تسليم مصيره لقوى أيديولوجية خارجة عن منطق الدولة، تحت رعاية قوى دولية تدّعي بناء الديمقراطيات.

إن تكرار نفس النموذج في اليمن، عبر شرعنة جماعة أيديولوجية متطرفة كالحوثيين، لا يصنع سلاماً بل يعيد إنتاج الأزمة بشكل أكثر وحشية. ومثل هذا التناقض في معايير العدالة الدولية، لا يمكن وصفه إلا بما هو عليه: مافيا عالمية تتقن التنظير للحقوق وهي تنتهكها، وتختبئ وراء المؤسسات وهي تقايض حرية الشعوب بمصالحها الجيوسياسية.

وعلى المستوى الفردي، قد يُنظر إلى هذه المفارقة من زاوية صادمة ولكن حقيقية: في بعض اللحظات التاريخية، يبدو حتى نموذج كوريا الشمالية أو أفغانستان، رغم ما فيه من تراجع، أكثر صدقاً مع الذات من أنظمة تتدثر بالديمقراطية بينما تبيع الشعوب تحت غطاء "حلول وسط". فما قيمة الحرية إذا كانت تعني بقاء الشعوب تحت رحمة فكرٍ كهنوتي يشرعن العبودية باسم الدين، كما يفعل الحوثيون؟ أو تحت تنظيمات إخوانية جعلت من الليبرالية جسر عبور ثم مزقتها بمجرد الوصول إلى السلطة؟

الأمر لا يتعلق باختيارات عقائدية بل بمنظومات سياسية تُصمم لتقييد البشر لا لتحريرهم. فجماعات كالحوثي والإخوان، رغم اختلاف لبوسهم، يتشابهان في الجوهر: كلاهما يربط الحق السياسي بالإيمان، والمعارضة بالكفر، والانتماء للجماعة بالطاعة، والحاكمية بالوحي. وهم بذلك لا يهددون فقط مجتمعاتهم، بل يهددون مفهوم الدولة الحديث نفسه، الذي يقوم على المواطنة المتساوية والمؤسسات المستقلة والحريات العامة.

لهذا، فإن أي تصور لحل في اليمن أو غيرها يجب أن يُبنى على الاعتراف بهذه الحقيقة: لا يمكن بناء دولة مدنية تحت سلطة جماعة أيديولوجية ذات طابع ثيوقراطي. ولا يمكن للمجتمع الدولي أن يستمر في الترويج لسلام شكلي، بينما يغض الطرف عن الانتهاكات اليومية، ويُكافئ ميليشيات طائفية بالمناصب.

ختاماً، فإن ما يحدث ليس فقط اختباراً للشعب الجنوبي أو للشعب اليمني، بل اختبار للمنظومة الدولية برمتها: هل هي حقاً منحازة للسلام والعدالة التي قامت عليها منذ تأسيسها، أم أنها شريك صامت في مشروع تدمير الدول وإعادة هندسة الشعوب؟ وبالرغم، الشعوب ليست غافلة، والمقاومة الحقيقية ليست في السلاح وحده، بل في الوعي، وفي رفض استغباء العقول باسم "التسويات"، حين تكون هذه التسويات لا تعدو كونها تعايشاً مع الظلم المقنّن.

فيديو