ماذا بعد تسلم تركيا شؤون سوريا

دراسات وتحليلات - منذ يومان

موسكو وأنقره | عملية الإستلام والتسليم

عين الجنوب | تحليل - خاص



موسكو بين سقوط نظام الأسد في سوريا ونقل الأسلحة الروسية المتطورة إلى ليبيا؛ لاحقة تكشف مشهداً معقداً ومضطرباً أعاد صياغة التوازنات الإقليمية والدولية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فما كان يبدو في البداية كسيناريو بعيد المنال تحول إلى واقع ملموس أثار أسئلة عميقة حول ديناميكيات النفوذ بين القوى الكبرى، والطرق التي تُعاد فيها هندسة الخرائط السياسية في المنطقة.

روسيا، التي راهنت بكل قوتها على بقاء نظام الأسد، وجدت نفسها الآن أمام معضلة وجودية: انهيار المشروع الذي بنته بدماء جنودها وبأموالها على مدى أكثر من عقد. سقوط الأسد لا يعني فقط فقدان حليف مهم، بل خسارة لموقع استراتيجي في قلب الشرق الأوسط، موقع شكل بوابتها إلى البحر المتوسط ومسرحاً لاستعراض قوتها العسكرية والسياسية. ومع هذا السقوط، اتخذت روسيا قراراً جريئاً بنقل أسلحتها المتطورة إلى ليبيا، وكأنها تُعيد رسم خارطة أولوياتها الإقليمية. ما يثير الدهشة، وربما الإعجاب بتحركات الكبار، هو قدرة موسكو على التكيف بسرعة مع الواقع الجديد. لقد أدركت أن استمرار الرهان على سوريا في ظل سيطرة تركيا على الأرض لم يعد مجدياً، فاختارت الانسحاب التكتيكي دون إعلان الهزيمة، ووجهت تركيزها نحو ليبيا، حيث تسعى إلى تأمين موطئ قدم جديد يمكنها من تحقيق مكاسب جيوسياسية تعوض خسائرها في بلاد الشام.

في ليبيا، تبدو روسيا وكأنها تراهن على لعبة طويلة الأمد، تستثمر فيها قوتها العسكرية وعلاقاتها الدبلوماسية لدعم حلفائها في الشرق الليبي، وعلى رأسهم خليفة حفتر. لكن هذه المرة، الأسلحة التي جُلبت من سوريا ليست مجرد أدوات للردع أو الدفاع، بل رسائل صامتة موجهة إلى الغرب وتركيا على حد سواء. إنها إعلان ضمني أن روسيا، رغم سقوط رهانها السوري، لن تقبل بأن تكون قوة ثانوية في المشهد المتوسطي. أما تركيا، التي نجحت في استغلال الفوضى السورية لصالحها، فقد وجدت نفسها فجأة في موقع القيادة هناك. توليها المسؤولية الرئيسية في سوريا ليس مجرد مكسب إقليمي، بل يعكس رؤية استراتيجية أوسع تسعى من خلالها أنقرة إلى ترسيخ مكانتها كقوة لا غنى عنها في المنطقة. في غياب روسيا، يبدو أن تركيا باتت الآن اللاعب الوحيد القادر على فرض أجندتها في سوريا، ما يمنحها أوراق ضغط جديدة في علاقتها مع الغرب والفاعلين الإقليميين.

لكن كما أشرنا سابقاً: هل نحن أمام تفاهمات غير معلنة بين موسكو وأنقرة؟ نعم، يبدو أن هناك إشارات قوية على وجود صفقة ضمنية، أو على الأقل تفاهم براغماتي، يقوم على تبادل النفوذ. روسيا تركز على ليبيا، تاركة سوريا لأنقرة، بينما تضمن تركيا بدورها عدم اعتراض طريق روسيا في شمال إفريقيا. هذه العلاقة الديناميكية بين الطرفين تعكس تحولات عميقة في توازنات القوة العالمية، حيث تُدار العلاقات بين القوى الكبرى بشكل أكثر مرونة وبراغماتية من أي وقت مضى.

الأمر المثير هنا هو كيف أن هذه التحركات لم تقتصر على الجغرافيا فقط، بل أعادت تعريف طبيعة التحالفات نفسها. الغرب، الذي طالما نظر إلى تركيا كحليف ضمن إطار الناتو، يجد نفسه الآن أمام شريك يتعاون بشكل وثيق مع روسيا في قضايا قد لا تتماشى مع مصالحه. وفي الوقت نفسه، الغرب يراقب بقلق شديد تعاظم الدور الروسي في ليبيا، المنطقة التي تشكل بالنسبة لأوروبا خطاً أحمر نظراً لقربها الجغرافي وتأثيرها المباشر على قضايا الهجرة والطاقة. روسيا تدرك أن لعبتها في ليبيا محفوفة بالمخاطر، لكنها أيضاً تدرك أن الربح هناك قد يكون أكثر أهمية واستدامة من الرهان على سوريا. ليبيا ليست مجرد ساحة للصراع، بل نقطة ارتكاز يمكن من خلالها التأثير على سياسات الطاقة الأوروبية، والتحكم في تدفقات الهجرة، وفرض نفسها كقوة لا يمكن تجاوزها في البحر المتوسط. وفي الوقت نفسه، تركيا، التي تدير الآن الملف السوري متفاخره بدورها، تجد نفسها في مواجهة تحديات متعددة: التعامل مع التوترات الكردية على حدودها، وإعادة ترتيب التحالفات الإقليمية، وضمان استمرار الدعم الغربي دون إثارة غضب موسكو. ومع ذلك، يبدو أن أنقرة تدرك تماماً كيف توازن بين كل هذه المصالح، وتستفيد من الفراغ الذي خلفته روسيا لتحقيق أهدافها.

إذا نظرنا إلى المشهد بأكمله، نجد أنفسنا أمام إعادة توزيع للأدوار والنفوذ، حيث لم تعد العلاقات الدولية تقوم على التحالفات التقليدية، بل أصبحت أشبه بلعبة معقدة تُعاد فيها صياغة القواعد باستمرار. روسيا وتركيا تقودان هذا التحول، لكنهما في الوقت نفسه تُدركان أن أي خطأ في الحسابات قد يؤدي إلى عواقب وخيمة.

المشهد الجديد الذي يتشكل أمامنا ليس مجرد تبدل في مواقع القوى، بل يعكس تحولات أعمق في طبيعة السياسة الدولية. سقوط نظام الأسد ونقل الأسلحة الروسية إلى ليبيا هما رمزان لعالم جديد يتميز بديناميكية غير مسبوقة، حيث القوة ليست فقط في القدرة العسكرية، بل في القدرة على التكيف والابتكار في مواجهة التحديات.

فيديو