في الذكرى الـ80 للنصر السوفيتي العظيم، ما تفسير غياب الهند؟

السياسة - منذ 5 ساعات

عين الجنوب | تقرير - خاص


في مشهد يعكس تبدلات عميقة في ميزان القوى العالمي، توافد 29 قائداً وزعيماً إلى الكرملين لحضور مأدبة غداء أقامها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ضمن احتفالات موسكو بالذكرى الـ80 للنصر الوطني العظيم على النازية في الحرب العالمية الثانية. الحدث جاء كمنصة صلبة لاستعراض التحالفات الدولية الجديدة وإعادة تأكيد أدوار اللاعبين الرئيسيين في النظام العالمي المتشكل. فالحضور الكثيف لقادة من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية عكس تحركاً دولياً حيوياً يلتف حول موسكو وبكين في مواجهة هيمنة الغرب، ويدفع باتجاه نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر تمثيلاً للجنوب العالمي.


في هذا السياق، كان اللقاء الذي جمع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشريكه الصيني شي جين بينغ بالغ الدلالة؛ حيث شدد الأخير على تمسك بلاده بـ"الرؤية الصحيحة لتاريخ الحرب العالمية الثانية"، مؤكداً أن الحفاظ على الذاكرة التاريخية مسؤولية مشتركة، وأن بكين وموسكو تعملان سوياً على بناء عالم متعدد الاقطاب. كلمات شي جين لم تكن مجرد مجاملة دبلوماسية، بل تعبيراً عن موقف استراتيجي طويل الأمد ترى فيه الصين أن التاريخ يجب ألا يُكتب من طرف واحد، وأن شرعية القوى الصاعدة يجب أن تنبع من مساهماتها الفعلية في صياغة الحاضر، لا من الروايات التي تفرضها القوى الغربية.

وفي الوقت الذي كانت فيه موسكو وبكين تعيدان التأكيد على تحالفهما الاستراتيجي، لفت غياب رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي الأنظار. غيابه الذي برره انشغاله بالازمة مع باكستان، في الحقيقة هو إشارة سياسية ذات دلالة مزدوجة: من جهة، تخشى الهند أن يُفهم حضورها كموافقة ضمنية على مواقف روسيا من حرب أوكرانيا، ومن جهة أخرى، يكشف هذا الغياب عن أزمة عميقة في تحديد هوية الهند الاستراتيجية، بين انجذابها نحو الغرب وسعيها للحفاظ على روابطها التاريخية مع الشرق. هذا التردد، في لحظة تشهد فيها السياسة الدولية وضوحاً غير مسبوق في الاصطفافات، يضع الهند في موقع هش ومربك.

الهند اليوم تبدو وكأنها تتأرجح بين طموحاتها كقوة كبرى وبين واقع سياسي ودبلوماسي أكثر تعقيداً مما تروّج له في خطاباتها. الأزمة الأخيرة مع كل من باكستان والصين كشفت عن هشاشة هذا الخطاب عندما يوضع أمام اختبار الأفعال. فمن الناحية القانونية، تواجه الهند صعوبات في زعمها، حيث تزعم الهند أن باكستان تدعم الإرهابيين لتنفيذ هجمات، لكنها لم تقدم أي دليل مقنع، وهذا لا يشكل سبباً كافياً لمهاجمة دولة أخرى.  بل تعتمد في كثير من الأحيان على أنها قوة عظمى مدفوعة بنفخ تضخيمي لدورها بدلاً من الحجة والإثبات. سياسياً، بدأت تخسر بعضاً من الدعم التقليدي لشركائها؛ فالصين تعزز شراكتها مع باكستان، وروسيا، التي كانت تُعد حليفاً تاريخياً للهند، تبدي بروداً واضحاً في علاقاتها معها، كما ظهر جلياً في غياب مودي عن فعاليات الكرملين. حتى الولايات المتحدة، التي تراهن عليها نيودلهي في موازنة النفوذ الصيني، تبقي على مسافة محسوبة من دلهي، مدركة أن التحالف مع الهند لا يمنحها بالضرورة تأثيراً حاسماً في الصراع الآسيوي.

عسكرياً، المشهد لا يقلّ إرباكاً. فالمواجهات الحدودية الأخيرة أدت إلى إسقاط طائرات هندية حديثة دون تحقيق مكاسب تذكر، ما أضعف من مصداقية سلاح الجو الهندي أمام سلاح الردع الباكستاني، مما طرح تساؤلات جدية حول كفاءة المؤسسة العسكرية وسلوكها العملياتي. الضربات الجوية التي استهدفت باكستان لم تؤدي إلى نتائج استراتيجية، بل على العكس، عززت صورة الهند كمصدر عنف موجه ظرفياً. مثل هذه الإخفاقات لا تعود فقط إلى ضعف تكتيكي، بل إلى سوء تقدير استراتيجي أوسع يرتبط بتضخم خطاب وطني داخلي قائم على الشعبوية وتضخيم قوتها كلاعب جديد غير متوازن.

وعلى المستوى الدولي، تستمر الهند في المراهنة على تحالفات متفرقة مثل "بريكس"، أو على دعم ظرفي من دول مثل إسرائيل، لكنها لم تنجح في تحويل هذه العلاقات إلى أدوات تأثير فعّال في الميدان السياسي أو الأمني. التحالفات تحتاج إلى وضوح في التوجه، لا إلى التذبذب والتردد، وهو ما تفتقر إليه دلهي في سياستها الخارجية الحالية. ومع تصاعد نفوذ التحالف الروسي-الصيني، تصبح الهند شيئاً فشيئاً على هامش الأحداث التي تعيد تشكيل النظام العالمي.

المفارقة المؤلمة أن الهند لا تعاني من ضعف مطلق، بل من خلل في التقدير الذاتي وسوء فهم لمعادلات القوة العالمية. فهي لا تخسر فقط في المواجهات العسكرية أو الدبلوماسية، بل تخسر في معركة المكانة؛ معركة إثبات أنها قادرة على تحويل اقتصادها الضخم إلى أدوات تأثير عالمي فعّالة. وبينما يعيد الآخرون كتابة التاريخ وتحالفات المستقبل من قلب الكرملين، تجد الهند نفسها خارج الصورة، تتأمل من بعيد، في لحظة تتطلب أقصى درجات الحسم والوضوح.

لذا، فإن التحدي الأكبر أمام الهند ليس في كسب خلاف حدودي أو تسجيل نقطة في صراع سياسي، بل في إعادة بناء سرديتها الاستراتيجية: هل هي دولة آسيوية تنتمي إلى الجنوب العالمي وتسعى إلى شراكات متكافئة مع قوى مثل روسيا والصين؟ أم هي لاعب إقليمي يحاول التسلّق نحو تحالفات غربية تتبنى براغماتية مؤقته كمنهج للعلاقات؟ غيابها عن مشهد موسكو التاريخي لم يكن غياب جسد، بل غياب رؤية، وغموض هوية؟

فيديو