المشهد العالمي في منطقة أوراسيا تكامل جيوسياسي إقتصادي أم إستراتيجية جديدة؟

دراسات وتحليلات - منذ 5 ساعات

عين الجنوب | تقرير - خاص


تشهد المنطقة الأوراسية تحولات جيوسياسية واقتصادية عميقة، تتفاعل فيها مصالح القوى العظمى والإقليمية الصاعدة بشكل لافت. الأحداث الأخيرة، مثل قمة الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في مينسك، والمبادرات الصينية في المنطقة، والتطورات في العلاقات بين روسيا والصين والشرق الأوسط، تشكل فصلاً جديداً في صراع النفوذ الإقليمي والدولي. هذا التحليل الشامل يربط بين هذه الأحداث ويضعها في سياقها الاستراتيجي الأوسع.

التقارب الروسي-الإماراتي في سياق التحالفات الأوراسية
مشاركة الشيخ خالد بن محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، في قمة الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في مينسك، ولقاؤه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يمثلان تطوراً مهماً في سياسة الإمارات الخارجية. هذا اللقاء يعكس تحولاً استراتيجياً في توجهات أبوظبي نحو تعميق الشراكة مع الكتلة الأوراسية التي تقودها روسيا. يأتي هذا في وقت تواجه فيه الإمارات ضغوطاً متزايدة من الغرب حول ملفات حقوق الإنسان وسياسات الطاقة، مما يدفعها لتنويع تحالفاتها. اللقاء الروسي-الإماراتي في مينسك يكتسب أهمية إضافية في ظل الجهود الروسية لتعويض العزلة الغربية عبر تعزيز شراكاتها مع دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا سيما في مجالات الطاقة والأمن الغذائي والاستثمارات المتبادلة.

العلاقات الاقتصادية بين الإمارات وروسيا شهدت نمواً ملحوظاً منذ فرض العقوبات الغربية على موسكو، حيث أصبحت دبي مركزاً مالياً مهماً للأعمال الروسية. من المتوقع أن تترجم هذه الزيارة إلى اتفاقات استثمارية جديدة، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والطاقة المتجددة، التي تسعى الإمارات لتعزيز حضورها فيها. في المقابل، تبحث روسيا عن شركاء جدد لتصدير منتجاتها الزراعية والتكنولوجية بعد فقدانها للأسواق الأوروبية. هذا التقارب يخدم أهداف الطرفين في تقليل الاعتماد على الغرب، لكنه يطرح تساؤلات حول مدى تأثير ذلك على التحالفات التقليدية للإمارات مع الولايات المتحدة وحلفائها.

الصين والتمدد الناعم في أوراسيا والشرق الأوسط
افتتاح النسخة العربية من الفيلم الصيني "نه تشا 2" في السعودية، وإقامة معرض الصين-أوراسيا للتجارة في شينجيانغ، واجتماع وزير الدفاع الصيني مع نظرائه في منظمة شانغهاي للتعاون، جميعها عناصر في استراتيجية صينية متكاملة لتعزيز النفوذ الثقافي والاقتصادي والأمني في المنطقة. الفيلم الصيني المدبلج للعربية يمثل أداة من أدوات القوة الناعمة التي تعتمدها بكين لتعزيز حضورها الثقافي في الشرق الأوسط، وهي منطقة ذات أهمية استراتيجية لمشروع الحزام والطريق. نجاح الصين في اختراق السوق السينمائية السعودية، التي تعد من أكبر الأسواق في المنطقة والأكثر واعدية، يعكس عمق العلاقات الثقافية المتنامية بين الطرفين.

معرض الصين-أوراسيا في شينجيانغ يأتي في إطار الجهود الصينية لتحويل هذه المنطقة إلى مركز تجاري يربط بين الصين ودول آسيا الوسطى والشرق الأوسط. شينجيانغ، بموقعها الجغرافي ومواردها الطبيعية، تشكل حلقة وصل حيوية في مشروع الحزام والطريق. المعرض ليس مجرد فعالية تجارية، بل هو أداة جيوسياسية لتعزيز التكامل الاقتصادي الأوراسي تحت القيادة الصينية. من خلال هذا المعرض، تسعى الصين لتعزيز استخدام اليوان في المعاملات التجارية، وتوسيع شبكة شركائها الاقتصاديين، وتقليل الاعتماد على الممرات البحرية التي تسيطر عليها القوى الغربية.

اجتماع وزير الدفاع الصيني مع أعضاء منظمة شانغهاي للتعاون يؤكد توجه بكين لتعزيز دورها الأمني في المنطقة. المنظمة، التي تضم دولاً مثل روسيا والهند وباكستان ودول آسيا الوسطى، تتحول تدريجياً إلى منصة للتعاون الأمني المضاد للنفوذ الغربي. الصين تسعى من خلال هذه المنظمة إلى بناء تحالفات أمنية تخدم مصالحها في مواجهة التمدد الغربي في آسيا الوسطى، وفي نفس الوقت تقدم نفسها كبديل عن الولايات المتحدة في توفير الأمن الإقليمي. هذا التوجه يتكامل مع السياسة الاقتصادية الصينية في المنطقة، حيث تسعى لربط الأمن بالاستثمارات، مما يعزز قبضتها الجيوسياسية.

التنافس الدولي على أوراسيا: بين القمم والمبادرات
المشهد الأوراسي يشهد تنافساً ثلاثي الأقطاب بين روسيا والصين والدول الصاعدة والغرب. قمة الاتحاد الاقتصادي الأوراسي في مينسك جاءت في وقت تحاول فيه موسكو الحفاظ على نفوذها التقليدي في منطقة ما بعد الاتحاد السوفيتي في مواجهة التمدد الصيني من جهة والمحاولات الأوروبية لاختراق آسيا الوسطى من جهة أخرى. الصورة الجماعية لقادة الاتحاد الأوراسي في مينسك ترمز لمحاولة روسيا إظهار التماسك بين أعضاء الاتحاد، لكن الخلافات الداخلية حول مدى التكامل مع روسيا والصين تبقى قائمة، خاصة مع تزايد النفوذ الصيني في دول مثل كازاخستان.

من جهة أخرى، يشهد التعاون الأوروبي مع آسيا الوسطى تطورات مهمة، كما ظهر في قمة سمرقند بين الاتحاد الأوروبي ودول آسيا الوسطى في أبريل 2025. الاتحاد الأوروبي، الذي يعاني من تبعات الحرب في أوكرانيا وأزمات الطاقة، يسعى لتعويض اعتماده على روسيا عبر تعزيز شراكاته مع الجمهوريات الآسيوية. حزمة الاستثمارات الأوروبية في البنية التحتية والطاقة الخضراء في آسيا الوسطى، والتي تصل قيمتها إلى مليارات اليورو، تهدف لخلق بديل عن الاستثمارات الصينية والروسية. لكن نجاح هذا التوجه الأوروبي يواجه تحديات كبيرة، نظراً للهيمنة الروسية-الصينية على اقتصادات هذه الدول، وعدم رغبة العديد منها في الاستغناء عن علاقاتها مع موسكو وبكين.

في هذا السياق، يمكن فهم زيارة ولي عهد أبوظبي إلى مينسك كجزء من استراتيجية الإمارات للعب دور الوسيط بين هذه الأقطاب المتنافسة. الإمارات، بعلاقاتها الجيدة مع جميع الأطراف، تحاول الاستفادة من هذا التنافس لتعزيز مكانتها كمركز تجاري ومالي إقليمي. لكن هذا الموقف المتوازن يصبح أكثر صعوبة مع تصاعد الاستقطاب الدولي وتزايد الضغوط على الدول للاصطفاف في أحد المعسكرات.

تداعيات التحولات الجيوسياسية على النظام الدولي، حيث الأحداث الأخيرة في أوراسيا والشرق الأوسط تعكس تحولات أعمق، وفيه تتراجع الهيمنة الغربية وتتصاعد تعددية الأقطاب. الصعود الصيني، والمقاومة الروسية للعقوبات الغربية، وتنوع تحالفات دول الخليج، جميعها مؤشرات على نظام عالمي أقل مركزية وأكثر تعقيداً. في هذا النظام الجديد، تصبح المناطق الحدودية مثل آسيا الوسطى والشرق الأوسط ساحات للتنافس بين القوى الكبرى، لكنها أيضاً تكتسب قدرة أكبر على المناورة بين هذه القوى.

السينما الصينية في السعودية، والمعارض التجارية في شينجيانغ، والقمم الاقتصادية في مينسك، هي تعبير عن تحول جيوسياسي شامل. في هذا السياق، تواجه الدول الصغيرة والمتوسطة والصاعدة تحدياً في الحفاظ على استقلاليتها وسيادتها في ظل هذا التنافس الكبير. النجاح في هذا الاختبار سيعتمد على قدرة هذه الدول على تطوير استراتيجيات مرنة تمكنها من الاستفادة من الفرص التي يوفرها تعدد الأقطاب، مع تجنب المخاطر الناجمة عن الانجرار إلى صراعات القوى الكبرى.

المستقبل سيشهد على الأرجح مزيداً من التقارب بين آسيا الوسطى والشرق الأوسط، في إطار ما يسمى "الشرق الأوسط الكبير" أو "أوراسيا الجديدة". هذا التقارب سيكون محوره الصين وروسيا، لكن مع وجود مساحة لدول أخرى مثل الإمارات وتركيا ومصر وإيران للعب أدوار مهمة. المعضلة التي تواجه الغرب هي كيفية التعامل مع هذا التحول دون التخلي عن مصالحه في المنطقة، وفي نفس الوقت دون الانجرار إلى مواجهات مكلفة مع القوى الأوراسية الصاعدة.

الأحداث الأخيرة هي تعبير عن تحول استراتيجي عميق سيشكل خريطة التحالفات والصراعات أو الإستقرار المتوازن في العقود القادمة. فهم هذه التحولات يتطلب نظرة شمولية تربط بين العوامل الاقتصادية والثقافية والأمنية، وتقرأ الأحداث المحلية في سياقها الإقليمي والدولي الأوسع.

فيديو